1 - مُـفـتـتــح
من أين أبدأ ، وكيف أمضي ، وإلى أين أنتهي ؟ ، والحديث عن النقد إنما هو حديث عن تاريخ الأمم في اللغة ، والفكر، والرجال ، والآماد الرحبة المتطاولة ، لا يعرف كنهها إلا النقاد ، فتاريخ الأمم حاضر بين أيديهم ، ماثل أمام أعينهم ، فماذا أنا قائل فيه ؟ ، وماذا أنا بالغ بالكتابة عنه ؟ ، ومن أين نستقطب النجوم ، ونلتقط الدُرر ؟ ، فأغلى الجواهر ليست بكبر الحجم ، وأحلى الكلمات كلمة "حُب" ، فهي مُؤلفة من حرفين ، ولكنها تغلف الكون ، بالورود والعطور ، وتهبُ المُتلقين أجمل الأحلام .
سينصب تدخلنا في هذا الكتاب (أنفال وظلال) على النصوص الأدبية من حيث كونها موضوعًا ، وعلى حقيقة المعرفة والآداب ، ويَضُم كتابنا قصصًا مُشرقة ، وأشعارًا شائقة ، تضمُها وحدة فكرية عامة تشمل جميع الأجزاء فيه ، فموضُوعاته تدور كلها في (الأنواع الأدبية)، ومهما يكون الخلاف حول جدوى مقولة النوع الأدبيّ ، ومدى أهميتها في تناول النصوص الأدبية المُعاصرة ، التي عَـمـدت إلى انتهاك الأنواع ومَزجـِـها ، ومهما اختلفت المفاهيم والمداخل ، وتباينت النظريات ومعايير تصنيفها ، وطبيعة العلاقة بين أبنيتها وأنظمتها ، وأبنية المجتمع الذي نشأت فيه ، وجدواها في الدرس الأدبي المعاصر ، فإنه لا خلاف تقريبًا على المكانة المِحورية التي تحتلها مقولة النوع في كل دراسة .
وكلمة (أنـفـــال) قبل أن نذهـب بعـيـدًا تتضمن العـديـد مِـن المعاني :
فـالـنـفــــــل : الغـنـيـمــــة ، والـهـبـــــة ، والـجــمـــع : أنـــفــــــال ،
والـهــبـــــة : الـعـطـيـــة الـخـالـيــة مـن الأعـــواض والأغـــراض .
والنـافــلــــة : ما زاد عـلـى الـنـصـيــبِ ، أو الـحـق ِ، أو الـفــرض ِ ،
وفي التنزيل العـزيـز : وَمِـنَ اللَّيـْـل ِ فـَـتـَهَجَّدْ بـِـهِ نـَافـِلـَة ً لـَّـكَ ( ).
وفي معنى الهـِـبة أو الغنيمة يأتي قوله تعالى عن سيدنا « إبراهيم » :وَوَهَبْنـَا لـَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْـقـُوبَ نـَافِلـَة ً وَكـُلا ًجَعَلـْـنـَا صَالِحِـيـنَ( ) ، وهي هُنا بمعنى الحفيد أيضًا , فالنافلة : ولد الولد , يعني أن « يعقوب » وَلد « إسحاق » ، كما قال :فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقـُوبَ( ).
فقد سأل واحدًا فقال :رَبِّ هـَـبْ لِي مِنَ الصَّالِحِـيـنَ) ). فأعطاه الله « إسحاق » ، وزاده « يعقوب » نافلة ( ) .
ونحن هنا نُسلط الأضواء على هباتِ النصوص ، نلوذ بظلالها من وقدة الهجير ، فالظل من كل شيء : شخصه . والجمع : ظلال وأظلال ، و(الظلُ المَمدود): ظل أو خيال يقع على شيء مجاور للمرسوم من سقوط الضوء عليه . وحين نعيش في ظل النص فذلك معناه أننا نحيا في كنفه .
ويتسع المعنى ، فالظـُلـَـلُ : الماء تحت الشجرة لا تصيبه الشمس ، والجمع أظلال ، والظـُّلـَّـة : ما أظلك من شجر وغيره , والظَّلِيلة ُ : الروضة ُالكثيرة الأشجار ، لا يقدر أحد أن ينفذ َفيها ، والجمع ظلائل .
وترجع أهمية هذا الكتاب : (أنفال وظلال) إلى أمور منها : أن النقد فيه ينطلق من ركائزه ، في إطار المعرفة ، والحقيقة ، فهو معراج مختلف من المعارج نحو مصير مختلف ، نـَرى من خلاله المألوف الراكد وقد تحول إلى جديد يفتح المشاعر ، لتأويه وتتمثله ، فإذا بالمألوف الراكد يهْـتـَزّ بجديد وافد ، يغازل السُّحب ويعتليها ، لينثر من فوقها الأمل ، وينشر الضياء ، يرافقه ، ويعانقه في إطار نقديّ دقيق ، وفي محاولة دائبة لكشف طبائع الحياة عند المبدعين ، وتحليل خلايا العمل الأدبيّ ، فالخلية خلق بسيط لا يكاد يرى بالعين المجردة ، ومع ذلك فهو حاملٌ أمين لكل مواريث التاريخ ، ولكل ملامح الحاضر ، ولكل عوامل تشكيل المستقبل ، أي أن كل شيء كامن ، ماثل في الخلية الواحدة ، طبيعة ، و شكلا ً ، ومزاجًا ، خلية واحدة نقديّة ، لكنها تقول كل شيء ، تبوح بالأسرار ، تكور الندى ، وتستنطق النصوص ، تخاطب المدى ، تلوح في قتامة الأفق كدمعة في جفن غيمة ، تحي الأرض الموات .
والنقدُ إبداع ٌ، ويدُ الناقدِ ليست العُليا ، ويدُ المُبدع السفلى ، بل الناقدُ والمُبدعُ معًا تدفعهما تلك الرغبة الطاغية في إصلاح الكون الفاسد ، وذلك التوق النبيل نحو عالم أكثر أمنـًا ، وحرية ً، وجمالا ً، كما أن الكتابة النقدية ليست هَمْهَمة لا تُفصح ، وليست ثرثرة لا تـُفضي لشيء ، وليست صياغات جَهمة مُنطفئة ، بل الناقد صاحب بصيرة واعيةٍ مثقفةٍ ، قادرةٍ على قطف الثمار ، وتقديم العطايا والهبات والأنفال ، وإدراك الفروق الدقيقة بين ظلال المعاني ، وينبغي أن يكون الناقد صادق الرأي ، لا يُخادع المُتلقين ، ولا يستهين بهم ، أو يُدلس عليهم ، أو يلقي إليهم بقول ٍملتبس ، أو يُغرقهم في مُصطلح ٍ مُبهم .
نحن أمام عمل شديد البوح : فكرة ، ورأيًا وبحثـًا ، وتوقيتـًا ، نـَحمد لكل صاحب إبداع فضله ، ودوره ، وحقه . وهذا الكتاب يضم بين دفتيه دراسات نقدية لعدد من المُبدعين( ) ، ولقد قدمنا لكل فن ٍمن الفنون التي يتعرض لها الكتاب مقدمة نسلط فيها الأضواء الكاشفة على خصائص كل فن ، حتى إذا ما جاءت دراسة الأديب كان المعنى أوضح وأشمل ، وكانت الفائدة أتم وأعم .
ففي القصة القصيرة :
تأتي أسماء الأدباء :« إبراهيم الرفاعي » ، « الحماقي المنشاوي » ، « عاصم خشبة » , « عُمر إبراهيم دِراز ».
وفي الـــروايــــــــة :
(« السعيد نجم » , « عطية زهري » , « وحيد السواح »).
وفي الـمـســـرحـــيــة :
« محمد خليل » .
وفي شعـر الفـصـحـى :
(« أحمد مطر » , « أحمد نور الدين » , « زينهم البدوي » , « صابر معوض » , « طارق الطبيلي ») .
وفي شعـر العــامـيــة :
(« علي معـوض », « فتحي البريشـي ») .
وفي عـرض الكـُـتـب :
كـتـاب (الأصول فـي الـدفــاع عن الـرســول)، للكاتب : « محمد السيد صالح وأملي كبير في أن يكون كتابي هذا أداة توصيل للعناصر الأساس لبعض الأنواع الأدبية ، بالقدر الذي يُسهم في تعرفها ، وتمثـُلهـا في أُطـُرها النظرية ، وتطبيقاتها العملية ، التي سَطرتـُها بين غلافيّ الكِتاب ، إذ لا يُمكننا أن نُحصر النصوص على طاولةِ النقد التشريحيّ بمجرد وفرة الأدوات المهنية ، فامتدادات النصوص لا حصر لها ، مـنهـا : (ما تدركه الأبصار) وهو الظاهر الذي يعرفه أهل الصّنعة ، ومنها : (ما لا تدركه سوى البصائر) وهو الخفيّ الذي لا يقدر عليه سوى أهل الطَبع والدُربة ، كما يقول شيخنا« عبد القاهر الجرجاني » وفي الحالتين لن تكون الإحاطة كاملة ً بالنص ، وأزعم - وليس كل الزعم افتراء ً- أنني مِلت إلى الاعتدال في غير إسراف ، والتوسط في غير إغراق وأنا أقدمُ هذه النصوص التي تثير الكثير من القضايا . فإن استجاد (المُتـَلـقـون) ما استجدت ، واستحسنوا ما أوردت ، ووجدوا في ثماره بعض ما وجدت ؛ أكون قد وُفقت إلى ما قصدت ، وبلغت ما أردت .
والله ولـيّ الـتـوفـيـــق .
أمين مرسي