2- القـصـة القـصـيــرة .
مقدمة في القصة القصيرة :
- ماهية القـصة القصيــرة .
- أنـــــــواع الـقــصــــــــــة .
- مـكـونـات الـقــصــــــــــة .
- مـسـرحة الـقـــصــــــــــة .
- تــاريـــخ الــقــصــــــــــة .
- ميـلاد القـصـة في مصـر .
- الـقـصــة الإدريــســيــــة .
« إبـراهـيـم الرفــاعـي » ، و : (الـغـــــــريـــــــــب) .
« الحماقي المنشــاوي » ، و : (فـُرْسان الظهيرة) .
« عـاصــم خــشـــبـــة » ، و : (مولود في الأول من توشكى) .
« عُـمـر إبراهـيـم دِراز » ، و : (بــائـــع الــــــورد) .
مقدمــة في القصـة القصـيـــرة
فن القصة قديم قدم الحياة , وقد وردت القصة في التوراة والإنجيل , والقرآن , ثم هي في شعر الإغريق , وآثار الرومان ، والمصريين القدماء , ولقد تعددت مصادر القصص من عربية , وفارسية , وهندية , وهيلينية , ومصرية , وتطورت بتطور الثقافة والفكر على مر العصور التاريخية ( ) .
والعملية الإبداعية في القصة قوامها اللغة التي تنسج خيوطها في مهارة إبداعية رشيقة ، تجمع بين الرهافة والجمال ، والقوة والانسيال ليحقق القاص من خلال هذا النسج رؤيته ، ويحدد ملامحه في كلمات موحية ذات ظلال فتقترب من فن الشعـر .
والأديب في إبداعه القصصي يمارس حضوره الشعريّ ، لما له من موهبة خصبة مبدعة في عالم الخيال ، ولاسيما إذا عرفنا أن كثيرًا من المُبدعين يُجِيدون إبداع الشعر ، فيتقاطع مع السرد في كثير من المواقف ، وذلك لوظيفة فنية يعجز عنها النثر .
والقاص يمزج في بناء عالم قصصه بين نوعين من أساليب التعبير الفني هما : (السرد ، والحوار) ، ومن هنا تتضح صعوبة مهمته من حيث المهارة ، والذكاء الذي يوائم من خلال هذا المزج بين التعبيرين المختلفين في التركيب والأداء ، فلا مندوحة له من عملية المواءمة بينهما ، إذ لا يمكن أن يستغني بأحدهما عن الآخر ، فهما رئتا القصة سواء أكانت : رواية ، أم قصة قصيرة ، أم طويلة ( ).
والقصة حكاية تعتمد كما قدمنا على : السرد ، والوصف ، وصراع الشخصيات ، بما ينطوي عليه ذلك من تخلل عناصر الحوار لهذا الجدل الدائر بين الأشخاص والأحداث ( ).
والقصة أيضًا فنٌ قولىّ دراميّ ، يسعى إلى خلق عالم إبداعيّ مواز في علاقته للعالم الواقعي الذي يعيشه القاص ، من خلال تجارب الفكر ، أو تجارب العاطفة ، أو تجارب الخيال( ) ،والأقصوصة : قصة قصيرة يعالج فيها الكاتب جانبًا من الحياة ( ).
ويتردد العمل القصصيّ بين أنواع أربعة ، هي :
1 - الأقصوصة . 2- القصة . 3 - الرواية . 4 - الحكاية .
ولكل واحد من هذه الأنواع ملامحه الخاصة التي تميزه عن سواه( ) .
تعريف القصة : القصة لغة : التي تكتب ، والجملة من الكلام ، والحديث ، والأمر ، والخبر ، والشأن . وقص فلان قصة : رواها ، ويقال : قص عليه الرؤيا : أخبره بها . وقص عليه خبَره : أورده على وجهه . وفي التنزيل العزيز :نَحْنُ نَقـُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص ِ( ). والقَصَصُ : رواية الخبر ، والخبر المقصوص ، والأثر( ). وجمع القصة : قِصَصٌ . والقاصُّ : القصاص .
والقصة اصطلاحًا : حكاية مكتوبة طويلة تُستمد من الخيال ،أو الواقع أو منهما معًا ، وتبنى على قواعد معينة من الفن الأدبي( ).
وتهدف القصة إلى : غرس مجموعة من الصفات ، والقيم ، والمبادئ ، والاتجاهات ، بواسطة الكلمة المنثورة التي تتناول حادثة أو مجموعة من الحوادث ، التي تنتظم في إطار فنيّ من التدرج والنماء ،ويقوم بها شخصيات : (بشرية ، أو غير بشرية) ، وتدور في إطاري زمان ومكان محددين ، مصاغة بأسلوب أدبي راق ، يتنوع بين : (السرد ، والحوار ، والوصف) ، ويعلو الأسلوب ، ويدنو وفقـًا للمرحلة المؤلف لها القصة ، وللشخصية التي يدور على لسانها الحوار( ) .
والتقاء هذا الفن بالشعر جعله متميزًا في أدبنا الحديث ، لكن تميزه هذا اتخذ شكلا ًمبدعًا عندما وجدت الطفولة سبيلا ًإلى مكنوناته ، فأخذت من الشعر رقّته ، ومُوسيقاه ، وجماله ، ومن القصة خيالها وعبرتَها ، وموضوعيّتها ، بكل ما تحمله من الوعظ ، والإرشاد ، و التوجيه ، والحكمة . والطفولة في الشعر القصصي تبرز بأبهى صورها من خلال القصة الهادفة التي تحكي على لسان الحيوانات والطيور ، وقد كان « أحمد شوقي » أمير الشعراء رائدًا في هذا الميدان ( ).
ولقد صاغ أبو البنيوية ( ) المفكر وعالم الأنثربولوجيا الفرنسيّ « كلود ليفي شتراوس » مصطلح (Bricolage) تجميع عشوائي (التراث القصصي) أو الموالفة ، والمصطلح الأخير المرتبط به (Bricoleur)(الموالف) ، أو (جامع الحكايات) ، أو (الحكواتي) ، في كتابة المشهور (العقل البدائي) ، أو العقل الوحشي (1966م) لكي يحدد به إحدى السمات الرئيسة - من وجهة نظره - للفكر الأسطوري أو الخرافي الذي تنتجه المجتمعات البُدائية (والذي قد يعيش طويلا ً كجزء من التراث الشعبيّ حتى في المجتمعات المتطورة فكريًا وعلميًا) .
وقال « شتراوس »: إن جميع السرديات الخرافية :(كالأساطير ، والملاحم القديمة ، وحكايات الخرافات) قد جرى تجميعها بشكل تلقائي غالبًا (أو مُتعمد أحيانـًا لغرض اجتماعي أو سياسي) بأسلوب التجميع العشوائي ، مما هو شائع من الحكايات والسرديات ، أو بقاياها المنتشرة في ثقافة بعينها ، وفيما تحتك به من ثقافات مجاورة ، والتي قد ترجع كلها إلى محاولات البدائيين لتفسير مظاهر الطبيعة ، أو لجذورهم ، وأصل نشأتهم كجماعة ذات ملامح وسمات جسدية ، وثقافية ، مشتركة ، ولتكوين (عقيدة وثقافة) تدعم تماسكهم في مقابل الجماعات الأخرى( ).
ويحتل (القص Nrrative) مكانة خاصة لدى الشكليين الروس ، فهم يؤكدون أن (الحبكة Sjuzet) هي التي تنفرد وحدها بالخاصية الأدبية ، أما القصة أو الحكاية (الفابيولا Fabula) فهي المادة الخام للقصة أو الهيكل العام لها ، وتنتظر يد الكاتب البارع الذي ينظمها ، ولكن مفهوم (الحبكة) لدى " الشكليين " كان أكثر ثورية من مفهومها عند "الأرسطيّ" الذي يُعرِّفها : بأنها ترتيب الأحداث الواقعة - أحداث القصة - بل هي أيضًا كل الوسائل المستخدمة للتدخل في مجرى القص وإبطائه .. فالاستطرادات ، والحيل الطباعية ، وإحلال أجزاء من الكتاب محل غيرها (التقديم ، الإهداء ، ....الخ) ، والأوصاف المسهبة ، كلها وسائل تركز انتباهنا على شكل (الروايّة) هكذا فإن الحبكة في هذه الحالة هي بمعنى مُعين ، انتهاك الترتيب الشكليّ المتوقع للأحداث .
أما الحبكة " الأرسطية " المحكمة فينبغي أن تقدم لنا الحقائق الأساس المألوفة في الحياة الإنسانية ، مما يستلزم كونها ممكنة الحدوث في الواقع ، وتتسم بنوع من الحتمية .
أما عند الشكلانيين الروس فكثيرًا ما كانت نظرية الحبكة ترتبط بمفهوم "التغريب "(بالروسية Ostranenie)، فالحبكة تمنعنا من النظر للأحداث على أنها نمطية مألوفة ( ) . وكان الشكلانيون الروس يسعون إلى تحقيق هدف واحد هو علم الأدب ، أما ما لاحظه « فردريك جيمسون »( ) حول اهتمامهم بالشكل بدلا ًمن المضمون فأمرٌ غير دقيق . فلقد اهتموا فيما يرى « روبرت شُولز »( ) بالبويطيقا ( ) أكثر من اهتمامهم بالتفسير ، وكان هدفهم تقديم قوانين عامة مفيدة حول أدبية العمل الأولى .
وقد اتسم التراث القصصي (Bricolage) بالجمع بين العبارة الفرنسية (bric-'a-brac) التي تعني (الكومة العشوائية من الأشياء القديمة والمهملة)، وكانت تعني حرفيًا : (العشوائية ، أو التصرف العشوائي - في الفرنسية القديمة - معجم أوكسفورد الكبير) ، وكلمة (Collage) التي تعني : قص ولزق - أو تكوين شيء جديد من أجزاء أشياء أخرى عديدة متنوعة ، ولعل هذا التكوين لصياغة المصطلح هو ما دفع اللغويين البنيويين إلى محاولة التمييز بين جامع الأساطير والحكواتي ، والمهندس البناء والمؤلف المُبدع ، فبينما لا يستخدم المهندس - المؤلف المبدع إلا الأدوات المناسبة ، ولا يؤلف فيما بين أجزاء إبداعه إلا وفق تصميم ذهني مسبق ، فإن (الحكواتي) يلملم (كل شن كان) بتعبير الراحل "يحيي حقي" في (كناسة الدكان)، من هنا وهناك ، ويقتبس ويستعير (بشكل تلقائي غالبًا ودون حرج أيضًا) من مصادر متنوعة ، مختلفة لكي يركب بنية كلية جديدة ( ) .
ماهيـة القصـة القـصيــرة
القصة ُالقصيرة ُمخلوقٌ دقيقٌ حساسٌ ، يتأثر باللحظة ، ولا يفر منها ، بل إن وظيفتَها هي الإمساكُ بها ، ومعايشتُها مهما كانت مرارتها ، وبالذات ... لعَصْر ِهذه المرارة وتركيزها ليتجرعها - دفعة واحدة - العابثون والغائبون ، واللاهون والجادون . إنها باختصار : فن إتقان المعايشة . معايشة المساكين والمذَلين والمُهَانين ، لتكشف - غالبًا - أن الفقرَ ليس في أخصاص الفقراء ، والغـِنـَى ليس في قصور الأغنياء ، والبَغِـيَّ ليست في بيت الدعارة ، والشّرفَ تجارة . لتدلنا على الغنيّ الفقير ، والفقير الغنيّ ، والبَغِيّ الفاضلة ، والفاضلة العاهرة ، والصالح الطالح ، و ... القائمة طويلة .
وقد أدّت القصة ُالقصيرة ُدورَهَا - عند أفذاذها - في التعبير عن هزائمنا وقهرنا وعُهْرنا ، في مواقع الهزيمة ، والقهر، والعُهر جميعًا، مهما اختلفت وتباعدت .
رأيناها على أرض (سيناء) جريحة ، وفي الواحات موعودة ، وفي السجُون المركزية مَضروبة بالسوطِ ، وفي السجن الحربي معلقة من ساقيها والكلاب تنهش في لحمها .
رأيناها في الحقول والمصانع ، في المتاجر ، وخلف المكاتب ، مظلومة مطحونة مدانة ، ومَنْ أرادَ أن يُعبّرَ بِها عن انتصارات زائفة ، ومكاسب كاذبة ، هزمت انتصاراته ، وبارت مكاسبه ، ولم يبقَ له غير الكذب ، والزيف ، والهزيمة والبوار .
وها نحن نراها - في عصر التيه (المصري)- تواكب تشرد (المصريين) خارج بلادهم . فعندما خرج (المصريون) من أرضهم سعيًا وراء لقمة العيش ، أو الثروة ، أو الدَّور في الحياة قالت القصة كلمتها .
هي تعلم أن (المصريين) مِن أشد شعوب الأرض التصاقـًا بالأرض . هي تعلم أن شعوبًا كثيرة أتت إليهم ، وذابت فيهم ، وهم مغروسُون في أرضهم كشجرة سامقة على ضفاف النهر المقدس ، إذا اقتـُلِعـَتْ من طينها ماتت . هي تعلم أنهم هكذا خلقوا ... منذ أن وجدوا أنفسهم يجاورون النهر المعطاء ، ويرضعون من مائه ، ويقدمون له القرابين ، ويزرعون ، ويشيدون . هكذا خلقوا ... هكذا خلقوا ...
وكانت كلمة القصة القصيرة : إن "الخروج" من "مصر" يتبعه "التيه" دائمًا . وإن "البقاء" في "مصر" يعني "الغربة" و"المطاردة" . والغريب الذي يحس بأن بيئته التي خلقها لم تعد بيئته بل سجنه ، يحار بين خيارين : خيار التيه المكاني ، وخيار التيه الزماني . والمُطارد لا يتخاصم مع البيئة ، لكنها تطارده بكل تسلطها وسطوتها ( ) .
كانت القصة المصرية حدثـًا ، صاحب نمو الثقافة القومية ، وبشكل واضح ، فلم يزد عمر هذا اللون الفني عن قرن من الزمان . والشكل محدد ، كانت البدايات الأولى لهذا اللون الجديد من الفن مع نمو تطور الحركة القومية ، كشكل جديد من أشكال التعبير الحديث الذي يتمشى مع متطلبات مجتمع التنوير واتضحت ملامح هذا الفن في روايتين أساسيتين هما :(حديث عيسى بن هشام ، أو فترة من الزمان) لـ« محمد المويلحي » (1868م - 1930م)، و(زينب) (1914م) للدكتور« محمد حسين هيكل »( )(1888م - 1956م) ، ثم تطورت كفن أدبي ( ) . ولو تأملنا رواية « محمد المويلحي » مليًا لوجدناها تقوم أساسًا على نفس المقابلة بين عقلية (الباشا) الذيقام من الأموات ، ليجد الدنيا تغيرت من حوله فماتت قيمٌ جميلة ، كان ينبغي لها أن تظل حية ، وقامت قيمٌ جديدة ، ومن الصدام بين عقلية الباشا وعقلية معاصريه الجدد ، يعرض « المويلحي » لحواره الاجتماعي الظريف ، وكما يحدث في رواية « سيرفانتس » (دون كيشوت) يخرج الباشا بحثـًا عن الحقيقة ، في رحلة طويلة ، ولعل أهم ما تضُمُّه هذه الرواية من معان هو روح العصر ، فـ(الباشا) و« عيسى بن هشام » يقومان في الواقع برحلتين ، بحثًـا عن روح (مصر). الرحلة الأولى محلية وإن كانت تمتد في الزمان إلى الوراء عصورًا متتابعة .. والرحلة الثانية خارجية ، يذهب فيها الباشا ، و« عيسى » إلى (فرنسا) ليدرسا الوافد الجديد إلى بلادهما دراسة واقعية على الطبيعة - ذلك أن الوافد هو المدنية الغربية . وفي أثناء الرحلة الداخلية ، تعرض نواح عديدة من الحياة في (مصر) في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين ، وتتعرض هذه النواحي لتيار متصل من النقد ، ونستطيع من خلاله أن نتبينَ الحقيقةَ التي خرج الفريقان ِللبحث عنها ، هذه الحقيقة باختصار هي : (مصر) البورجوازية . فعن طريق تصارع الأفكار بين الباشا من جهة و« عيسى بن هشام » من جهة أخرى ونماذج مختلفة من البورجوازية المصرية مثل المحامي والطبيب ، في هذه الرواية ، نجد أحلام هؤلاء الذين كانوا يتطلعون إلى السُلطة . ونرى كيف كانت المؤسسات الإقطاعية ، تقف حجر عثرة أمام الجديد .. وكذلك نجد القيم الجديدة المتمثلة في :(الشرف ، والفضيلة ، والعمل لصالح المجتمع)، ويعكس ذلك نتاج المرحلة ، وتمثله رواية« هيكل » (زينب) ، فعلى حين تـَعـرض « عيسى بن هشام » متاعب المهنة ، وتطلعات الطبقات الوسطى ، تعرض (زينب) القرية بكل علاقاتها من خلال الفتاة التي تحب « إبراهيم » رئيس العمال ،ولكن أهلها يزوجونها من فلاح غني( ) .
وكان (الأفندية) .. في بداية القرن العشرين هم وقود الحركة القومية .. كانت تلك الفئة ما زالت ناشئة ، وفي ذلك الوقت ابتدأت تنمو مع ثورة « أحمد عرابي »( ) ضد الحكم الأجنبيّ ، وبدأ عودها يقوى خلال حركة « مصطفى كامل »( ) ، ثم خلال الهبات والثورات الوطنية - وخلال الحربين العالميتين بدأت تتبلور . وقد اعتمد « مصطفى كامل » في محو صفة الهزيمة ، وفي إحياء إرادة الأمة على " الأفندية " .
وتاريخ (ثورة 1919م) يكتنز بالكثير لثورة الأفندية ، الذين شاركوا بآمالهم وأحلامهم في غمار هذه الحركة القومية الكبرى معبرين عن آمال الأمة الكبرى الباحثة عن الحرية والاستقلال ، وقد أعطت هذه المرحلة انعكاساتها في الأدب (المصري) من أكثر من ناحية ، كما أن كل الحركات الوطنية أثرت بشكل واضح على جيل الأدباء الذي بدأ يعطي ثماره منذ الثلاثينيات ، وفي مقدمة هؤلاء : « نجيب محفوظ » (1911م - 2006م) ، و«عبد الحميد جودة السحار»( ) (1913م - 1974م) ، و« عادل كامل »، فكتب الأول :(رادوبيس) و(كفاح طيبة)، وكتب الثاني :(أحمس بطل الاستقلال) ، وكتب الثالث : (إخناتون - ملك من شعاع)( ) ، ومضت تلمس قلب الأشياء ، ولا تغيب عن البال والخاطر ، تتفاعل مع المثقفين أملا ًفي عودة الزمن المفقود إلى أحضان الجميع بعد مطاردةٍ ، ومداهمةٍ من عاصف الريح ، ورغبةٍ في عودة الحُلـْم ِالجميل إلى دائرة الضوء بعد إجهاضٍ وطولِ غياب ، والقاص النابه يمتلك الخبرة ، والمعرفة الوثيقة بالنفس الإنسانية ، ومجاهلها ، وهو الذي يبرع في التعبير عن الذات والصدق معها ، ففي دنيا النفس يعيش الناسُ على اختلاف ألسنتهم وألوانهم في دنيا تتشابه نواميسها المحسوسة تشابها قويًا ، أو تتقارب تقاربًا كبيرًا ، ولو تركت هذا الاختلاف في الألسن ، والألوان لوجدت اختلافـًا بيِّنا ، وتغايرًا باديًا ، بل تجد الشخص الواحد أو الحادث الواحد يتغير من حين إلى حين .
وتبقى القصة القصيرة في مكانة مرموقة ، تحمل فكرًا ترمي به في بحيرة السكون ، وتتحول إلى نافورةِ ماءٍ عذبٍ ، وحبٍ ، وسكينة . ويبقى القاصُ المبدعُ بفنون القصة أخبر ، وبغرس الزهور والرياحين أقدر ، ومن خلال تفرّده يضع الفواصل بين ما هو زبد يذهبُ جُفـَاءً ، وما ينفع الناس فيمكثُ في الأرض ( ) .
وهناك فرقٌ شاسع بين كاتب القصة القصيرة الواعي بشكلها الفنيّ ، والكاتب الذي يختصر رواية طويلة في صفحات قليلة ظنًا منه أنه بهذا يكتب قصة قصيرة . ذلك أن الرواية تعتمد في تحقيق المعنى على التجميع ، أما القصة القصيرة فتعتمد على التركيز ، والرواية تصور النهر من المنبع إلى المصب ، أما القصة القصيرة فتصور دوامة واحدة على سطح النهر . وتعرض الرواية للشخص من نشأته إلى زواجه أو مماته ، وهي تروي وتفسر أحداث حياته من حب ومرض وصراع وفشل ونجاح . أما القصة القصيرة فتكتفي بقطاع من هذه الحياة ، بلمحة منها تعني شيئاً معينًا ، ولذلك فهي تسلط عليها الضوء بحيث تنتهي بها نهاية تنير لنا معنى هذه اللحظة .
ومن الواضح أن القصة القصيرة قادرة على مواكبة روح عصرنا ، وإيقاعه السريع ، بأسلوب أفضل من الرواية . فهي لا تستغرق وقتـًا طويلا ًفي القراءة ، ويمكن نَشرها في مجلة أسبوعية ، أو حتى جريدة يومية ، أما الرواية فمرهقة ، وهذا ما لا يتأتى للكثيرين من أبناء هذا العصر ، ولذلك يفضلون مشاهدة الرواية في السينما ، أو التلفاز على قراءتها . ومن هنا كانت الشعبية التي تحظى بها القصة القصيرة على مستوى عالمنا المعاصر كله ( ) .
أنـواع القـصـــــة
للقـصــة تـقـسـيـمـــان ( ) :
( أ ) أحدهما من حيث الشكل والحجم .
(ب) ثانيهما من حيث المحتوى والمضمون .
أ - من حيث الشكل والحجم :
تقسم القصص من حيث تنوع أحداثها ، وعدد شخصياتها ، وكم صفحاتها إلى ما يلي :-
1- الأقصوصة : وهي أصغرها حجمًا ، وأكثرها تركيزًا ، وتكون وحيدة الحدث ، والعقدة ، والشخصية ، والمشهد . وتكون في حدود صفحة فلُوسكاب أو أقل تقريبًا . وجمع الأقصوصة : أقاصيص ، والأقصوصة يعالج فيها الكاتب جانبًا من جوانب الحياة ، لا كل جوانب الحياة ، فهو يقتصر على سرد حادثة ، أو بضع حوادث يتألف منها موضوع مستقل بشخصياته ومقوماته ، على أن الموضوع مع قصره يجب أن يكون تامًا ناضجًا من وجهة التحليل والمعالجة .
2- القصة القصيرة : وتكون ذات عقدةٍ واحدة ، وشخصيات قليلة لا تتجاوز (خمس شخصيات) ، وأحداثـًا متعددة محدودة ، أو حادثة مفردة ، كما تتناول جانبًا واحدًا من جوانب الحياة بقصد إبراز فكرة ، أو توضيح خصيصة بشرية ، أو نقد سلوك غير سوي ، وقد تحدد في المسابقات الثقافية بعدد من الكلمات لا يتجاوز(خمسمائة كلمة) أو عدد من الصفحات لا يتجاوز (ثلاثـًا أو أربعًا من الصفحات الفلـُوسكاب).
3- القصة : تتناول مجموعة من الأحداث والوقائع وتربو الشخصيات فيها على خمس ، فلا بأس هنا بأن يطول الزمن ، وتمتد الحوادث ، يتوالى تطورها في شيء من التشابك ، وقد يكون فيها أكثر من عقدة ، وتدور في حقبة زمنية واحدة ، تتناول الشخصية عبر فترة زمنية طويلة نسبيًا ، وتمتد لتشمل عددًا من الصفحات يزيد عن الثلاث ، وعددًا من الكلمات يزيد عن (خمسمائة).
4- الرواية : وهي أكبر القصص حجمًا ، وأكثرها أحداثـًا وشخصيات ، وأوسعها انتشارًا من حيث الزمان والمكان ، وقد تتكون من عدة أجزاء ، كما في " ثلاثية " « نجيب محفوظ » (1911م - 2006م) : (السكرية - بين القصرين - قصر الشوق) .
والرواية تعالج موضوعًا كاملا ًأو أكثر ، زاخرًا بحياة تامة ،فلا يفرغ القارئ منها إلا وقد ألم بحياة البطل أو الأبطال في مراحلها المختلفة ، وميدان الرواية فسيح أمام المبدع يستطيع فيه أن يكشف الستار عن حياة أبطاله ، ويجلو الحوادث مهما تستغرق من الوقت . وفي كتاب بعنوان :(أربعون عامًا من النقد التطبيقي) لـ« محمود أمين العالم » ( )(1922م - 2009م) تتضح معالم خريطة الرواية العربية.
وكتاب :(أربعون عامًا من النقد التطبيقي)، ثلاثة أقسام ، هي :
(1) مقدمات نظرية حول نظرية الرواية كما يراها « محمود أمين العالم » ، وتشمل نوعًا من التأريخ لفن الرواية .
(2) تطبيقات نقدية لأهم الأعمال التي صدرت في الثمانينيات .
(3) تطبيقات نقدية لأعمال سبقت مرحلة الثمانينيات ، ويشتمل على الدراسات القديمة التي كتبها الأستاذ « محمود أمين العالم » في مراحل سابقة .
ويتفق « محمود أمين العالم » مع مقولة الدكتور « على الراعي »( ) في أن الرواية تمثل " الديوان الجديد للعرب " :" لقد أصبحت الرواية العربية بحق هي التاريخ الأدبيّ العميق المُتخيل داخل التاريخ الموضوعيّ العربيّ المعاصر ، وأصبحت على اختلاف مستوياتها ، وتوجهاتها ورؤاها ، وأبنيتها الزمنية الجمالية والدلالية ، الوعي الإبداعي الكاشف عن جوهر مفارقات هذا التاريخ العربيّ ، وتناقضاته ، وأزمانه ، وفواجعه ، والتباساته سواء في تضاريسه الحديثة الخارجية أم أعماقه الباطنية ...".
فالعصر عصر انكسار ، حيث وصفه بأنه عصر سيادة الفوضى والهيمنة الرأسمالية في المجالات : السياسية ، والعسكرية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ، وكل ذلك سعى إلى الامتداد للمجال الثقافي ، وعمل على تنميطه وتطويعه لمصالحها الخاصة ، كما ساهم في انتشار الاتجاهات العقلية المتزمتة المعادية للديمقراطية ، ومن هنا يبرز دور رئيس واستراتيجي للرواية بطبيعتها :(الزمنية ، والتاريخية ، والإنسانية)، يختص بالتوعية والتنوير ، وقبل كل ذلك بالمقاومة ( ).
ويُقسم « محمود تيمور»( ) القصة من حيث الشكل والحجم إلى : (أقصوصة ، وقصة ، ورواية ، وحكاية) .
والحكاية : تسوق واقعة ، أو وقائع حقيقية أو خيالية ، ولا يلتزم فيها الحاكي بقواعد الفن الدقيقة ، بل يرسل الكلام كما يواتيه طبعه ، والحكايات في الأكثر تكون منقولة من أفواه الناس ، وصاحبها يعرف (بالحكـّاء) أو(السمير)( ).
ب - من حيث المحتوى والمضمون .
ثمة تقسيمات عديدة للقصة من حيث مضمونها ، ومنها : القصة الدينية ، وقصص الطبيعة ، والطيور والحيوانات ، قصص الخيال العلمي ، الأسطورة أو الملحمة ، القصة الفكاهية ، القصة الشعـبية ، القصة الاجتماعية ، القصة التاريخية ، ... والقائمة طويلة .
الأشـكـال البنائـيــة
(1) الشكل المثلث : هو الشكل التقليدي الذي يتكون من بداية ، ووسط ، ونهاية . ففي البداية يتعرف القارئ الشخوص ، وتسير العلاقات بينهما في خطـُوط متوازية ، ثم تبدأ الخطوط في الاقتراب والتشابك ، والتقاطع ، والتصادم إلى أن تصل الأحداث إلى قمة متوترة ، ثم تأتي بعدها النهاية ويعرف القراء الحل ( ).
وبعبارة أخرى : تتكون عناصر الأحداث في القصة من : مقدمة ، وعقدة ، وحل ، فالمقدمة : هي التمهيد لفكرة القصة ، أما العقدة : فهي المشكلة التي تظهر أثناء القصة ، وتحتاج إلى حل ، أو هي الموقف الغامض الذي لابد له من تفسير ، وهي تثير في نفس السامع أو المتلقي الرغبة في معرفة الحل ، وتجعله يفكر فيه ، فإذا جاء الحل بعد ذلك شعر براحة ولذة ، وعندئذ يهدأ نشاطه ، ويحدد موقفه من الشخصيات ، ويشعر بنهاية الحوادث (2) الشكل المستقيم المتعرج لعرض الأحداث : سواء بواسطة السرد المباشر من جهة الكاتب ، أم الحوار الذي يجرى على ألسنة الشخصيات ، أم محادثة النفس ، والترجمة الذاتية ، وهذا ما يسمى بأسلوب التداعي الحر ، أو المذكرات الشخصية ، أو الرسائل المتبادلة ، أو المزاوجة بين كل ذلك .
(3) الشكل الدائري : وهو الذي يبدأ بفكرة وينتهي بها .
ومع تعدد الوسائل التي يمكن أن تبدأ بها القصة القصيرة فإن لكل قصة نقطة ابتداء حقيقية ، وإذا لم يحسن الفنان اختيار هذه النقطة ، فإن القصة ربما تعاني الكثير من النقص ، وربما التشوه ، والحبكة هي : الخاصية الأولى في القصة القصيرة ، فضلا ًعن التكثيف ووحدة الانطباع ... وباختصار فإنه بدون (الحبكة) لا توجد قصة قصيرة .
والقصة القصيرة مثل ضربة الجزاء - أحاول أن استميل لاعبي الكرة - ويجب أن يحدد (اللاعب / الكاتب) الموضع الذي ستنطلق فيه ، ويصوب إلى هذا الموضع بالفعل ، فإذا تردد ،أو بدل نيته ، فإن الكرة سيصدها حارس المرمى ، أو أن اللاعب سيطوح بها بعيدًا ( ).
وبناء القصة يعتمد إلى حد كبير على وضوح المؤلف في عرض الأحداث ، وحبكة القصة هي التي تشد القارئ إليها ، فإذا لم تكن قوية ، وجوهرية فلن تجذب الاهتمام إليها لمدة طويلة ، ولن تجد القصة من يقرأها إلى آخرها ( ) .
ومن أجل ذلك فإن موضوع القصة الجيدة يجب أن يكون قيمًا ومفيدًا ، وأن يكون قائمًا على العدل ، والنزاهة والطهارة ، والأخلاقيات السليمة والمبادئ الأدبية ، والسلوكية التي ترسم هذه القيم . والحبكة تكون قائمة على المصادفات ، والحيل ، والخدع ، أو المعجزات ، ويجب أن تكون أصيلة ، وجديدة ، وغير مستهلكة ، أو تافهة ، أو غير معقولة ، فإذا ما اتضحت الفكرة في ذِهن المؤلف ، فإن عليه أن يضع سلسلة من الوقائع ، والحوادث تكون بنية قصته ، هذه البنية التي يرجو أن تكون سويّة ، متماسكة ، محبوكة حبكة فنية تجعل منها عملاً ناجحًا .
مـكـونـات الـقـصــــــة
1- الفكرة أو الموضوع : وهي هدف القصة ، وتسمى القصة بنوع الفكرة ، فإذا كانت فكرة سياسية تسمى " قصة سياسية " ... وهكذا . ومقدمة القصة هي التي تدلنا على جودتها أو العكس ، وهي أول مكون من مكوناتها.
2- الأحداث : هي الوقائع التي تدور حولها القصة ، وتتكون من : مقدمة ، وعقدة (أو عُقد)، وحل .
أ - المقدمة : يجب أن تكون مناسبة لحجم القصة ، فلا تكون طويلة مملة ، أو قصيرة مخلة ، فإذا كانت القصة عشرين صفحة ، كانت المقدمة صفحتين . ومن خلال المقدمة نتعرف الزمان والمكان والشخصيات . ويجب أن ترتبط المقدمة بما بعدها في تسلسل لا ينقطع ولا ينفصل ، ويجب أن تتسم المقدمة بالهدوء .
ب - العُقدة أو العُقد : العُقدة قمة التصاعد الدراميّ ، وهي نتيجة للمقدمة .
ج - الحل : وهو الراحة النفسية للمتلقي (القارئ) وتكون هادئة (مقدمة تتصاعد للعقدة ، ثم يأتي الحل)، وأحيانـًا يبدأ القاص بالحل ، ثم العقدة ، وأحيانـًا يبدأ بالعقدة ، ثم المقدمة ، ثم الحل .
3- الشخصيات : وهي من الواقع ، أما الشخوص فهي التي يبتكرها القاص من خياله ، وهي من صنع الخيال . (والشخص لغة ً: كل جسم له ارتفاع وظهور، وغلب في الإنسان ، والجمع : أشخاص ، وشخوص)، ونوع الشخصيات : يختلف أو يتعدد (أناس - حيوان - طير - جماد) . ودور الشخصيات : رئيسٌ في القصة يقوم به بطلان ، ثانويّ ، نكرة ، بطانة . وتحتوي القصة على دور واحد أو أكثر من دور . والشخصيات ، من حيث الثبات والنمو لها مكانها في القصة ، و(النمو) يعني : تكامل رسم الشخصية ، ونموها مع الأحداث ، فتصدر كلامًا يتناسب مع المرحلة التي تمر بها . أما (الثبات) فيعني عدم التغير. وللشخصيات في القصة أبعاد جسمية ونفسية ، وشخصية .
4- البيئة الزمانية والمكانية : البيئة الزمانية : يظهر فيها الحدث في الماضي ، أو الحاضر ، أو المستقبل ، أو في فصل من فصول السنة ، وقد يكون الزمان مُركبًا ، كما أنه من الممكن أن تتعدد الأزمنة ، أما البيئة المكانية : فهي المكان الذي دارت فيه الأحداث .
5- البناء الفني (الدرامي): حبكة القصة الدرامية ، ومدى توافق كل عنصر من عناصر الأحداث.
6- الأسلوب : يتنوع أسلوب القصة ، فهو سرد مباشر ، أو حوار ، أو حديث نفس ، ويجب أن تكون القصة متنوعة الأسلوب حتى تصبح جيدة .
7- الانقرائية :(Readability): وتعني : اللغة (مفردات ، وجمل ، وتراكيب). كما تعني الصور الخيالية ، والمعاني ، والأفكار ، والطباعة . وتفصيل ذلك كما يلي : -
أ - المفردات : الكلمة القصيرة أسهل من الطويلة . والاسم المادي أفضل من المعنوي ، والاسم الظاهر أفضل من الضمير ، والاسم المبنى للمعلوم أفضل من الاسم المبنى للمجهول ، والكلمة الاسم أسهل من الكلمة الفعل ، لأن الفعل يدل على زمن - حدث - قائم بالحدث ، والاسم يدل على الذات .
ب - الجمل والتراكيب اللغوية : والجملة القصيرة أفضل من الطويلة ، وقد تكون الجملة اسمية ، أو مبنية للمعلوم وهذا أمر مطلوب ، وقد تشير للماديات .
ج - الصور والأخيلة : وتستفيد من التشبيه بمثل (الكاف).
د - المعاني والأفكار : يجب أن تتناسب مع القصة ، وتترتب على الأفكار التي تسبق الأحداث .
هـ - الطباعة : الغلاف ، ونوعه : لامعٌ ، مصقولٌ ، مُقوى ، غير قابل للقطع ، فيه ألوان مبهرة ، أم لا ، الصورة ، نوعها :(كما هي في الطبيعة ، أو رسمها سُرياليّ( ))، عدم وجود أخطاء في الصورة).
و - العنوان والصفحات : العنوان العتبة النصبة الأولى ، ويجب النظر إلى تفسير العنوان كلمة أو كلمتين أو أكثر . وفي الصفحات الخاصة بقصة الطفل توجد الهوامش لتتيح للطفل العبث ، أما الصورة داخل القصة للطفل فينبغي أن تشمل 2/3 الصفحة والباقي للكتابة ، ولا تتعدى الجملتين تحت الصورة في التعليق مع كبر حجم الكتابة .
8 - القـيـم : كان الهدف قديمًا المتعة والتسلية ، واختلف الأمر الآن ، بعد أن امتلأت الساحة الأدبية بأنصاف الأدباء ، وقاموا بتشويه القصة القصيرة بدعوى تحديثها ، حتى فقدت أركانها الأساسية إذ غالبًا ما تتحقق فيها الوحدات الثلاث الأساس ، والتي تظهر في فعل واحد ، في مكان واحد ، في زمان واحد .
ويرى « محمود تيمور » أن القصة بمعناها العام تتألف عادة من ثلاثة عناصر رئيسة هي : (الموضوع) و(الشخصيات) ، و(الحوار). وإن كان يرى أن هذا العنصر الأخير (الحوار) ليس من المقومات المحتومة دائمًا ، ولكنه لازم في أغلب الأحيان . فتبدأ القصة بالتمهيد للفكرة ، ثم تتطرق إلى ظهور العقدة ، ثم تتواصل إلى حل هذه العقدة ، أو ما يشبه الحل ، وهذا هو الهيكل المألوف في بناء القصة على وجه عام ( ) .
وبديهي أن كل قصاص له أن يرتضي الطريقة التي تـُلائمه ، ولكن ليس له بد من أن يراعي جانب القوانين العامة في التأليف القصصي ، لأنه مع إهدار أي من هذه القوانين يشعر الناقد باختلال العمل القصصي ، ولا دخل في ذلك للطريقة الخاصة ، ولا للمذهب الخاص .
ويرى « تيمور » أن قـُصارى ما يمكن أن يقرر في هذا الصدد :
(أن هذه الأصول والقواعد ليست إلا أقيسة وموازين استخلصت لتكون أساساً تبنى عليه الأحكام في تقدير القصص الفني ، فإن حرمت أن تكون عادلة كل العدل ، لم تحرم أن تكون أدنى إلى الصدق ، وأحق بالاعتبار)( ) .
وقد استقرت الحركة النقدية على مجموعة من الأساسيات التي رأت أنها تشكل قواعد الخلق الحقيقي في فن القصص ، ومن هذه الأساسيات ما يتصل بـ(عناصر العمل القصصي): كالحادثة ، والسرد ، والبناء ، والشخصية ، والزمان ، والمكان ، والفكرة .. ومنها ما يتصل بـ(البناء الفني للقصة): كترابط الوحدات ترابطـًا عضويًا ، ومواءمة الشكل للمضمون ، ومفارقة الأنواع بعضها لبعض ، واختلاف منظور فني عن منظور فني أخر ، والابتعاد عن الوعظية والخطابية ، وترك الفحوى لتنطق بها الحوادث والشخوص ... ومنها ما يتصل بـ(طرائق التعبير القصصي): كصياغة القاص لمصطلحه اللغوي الخاص ، واصطناعه أسلوبًا شخصيًا يدل على فكره الذاتي ، وتعبيره عن الواقع ليس بلغة هذا الواقع وإنما بلغة فنية خاصة ، وإنطاق شخوصه بلغاتهم ، ومستوياتهم الفكرية ، والاجتماعية ، والنفسية ، واتخاذ أسلوب سردي فيه ومضةُ الفن ، ودينامية الحياة .
وقد فصل « محمود تيمور » الحديث عن القواعد الأساسية التي يراها ضرورية في كتابة القصة ، حتى يكتمل لها بناؤها العضوي ، وحتى تصبح نوعًا أدبيًا قائمًا على ركائز نقدية تحدد فيه ما هو تلقائي ،وما هو مشروط ، وهو تفصيل يُجمل أهم الخصائص فيما يلي :
أولا ً: أن تكون للقصة وحدة فنية ، وبهذه الوحدة تتوافر فنية القصة ، وما الوحدة الفنية إلا أن يجعل الكاتب همه مقصورًا على إبراز الفكرة الأساس مجتنبًا جهد الطاقة أن يتطرق إلى آفاق أخرى .
ثانيًا : أن يراعي في عرض الموضوع جانب التلميح ما أمكن ، وأن يحذر جانب التصريح ، فلا يشرح الكاتب الموضوع ، ويحلل الشخصيات في شكل مهلهل ، بحيث لا يترك شيئـًا لفطنة القارئ وذكائه ، كما يجب أن يراعي كذلك عدم الإغراق في هذا التلميح ؛ حتى لا يتورط العمل القصصي في الغموض والإبهام .
ثالثـًا : أن يعنى الكاتب برسم شخصياته ( ) ، وأن يجعلها تصدر في أقوالها وأفعالها عن منطق الحياة التي أراد لها المؤلف أن تعيشها ، بواعيتها الظاهرة ، وواعيتها الخفية أيضًا .
رابعًا : ألا تكون الشخصيات بوقـًا ينقل ما يلقي إليها المؤلف من الكلام ، فيكون المتكلم هو المؤلف نفسه على لسان هذه الشخصيات الببغاوية ، والواجب أن يبقى للشخصيات كيانها المستقل ، وأن تظل حية في حركاتها وسكناتها ، وأن يحس القارئ من أعمالها حرارة هذه الحياة ، ويتعرف فعالها ، وما تتميز به من شمائل وحقائق.
خامسًا : حتمٌ أن يكون لكل قصة معنى ، وإلا كانت القصة لغوًا لا جدوى له .. ومعاني القاص إما أن تكون مُستمدة من الواقع ، أو مُستخرجة من النفس البشرية ، إلا أن المجد الأدبي لا يكون إلا من نصيب القصة التي يحذق كاتبها في رد أصولها ومعانيها إلى أوصال الإنسانية ، بغرائزها الباقية ، وميولها الخالدة .
سادسًا : يجب ألا تكون الفكرة المعالجة مصوغة في قالب وعظيّ ، أو على هيئة حكمة ، وألا يظهر فيها تحبيذ شيء ، أو النهي عن شيء .
ولا يتميز الفنان بوقوعه على نوعية معينة ، أو كم معين من الحوادث الهائلة أو الحائلة ، وإنما يتميز الفنان بكيفية ترتيب الحوادث وكيفية توظيفها معًا .. قد تكون الحوادث واحدة في أعمال عديد من القصاصين ، ولكن المنظور الفني والفلسفي إلى هذه الحوادث الواحدة يختلف من فنان إلى فنان ، وهذا هو ما يعطي فنانـًا بذاته امتيازًا على غيره ، إذا استطاع أن يتملك موضوعه ، وأداته ، وأن يخرج بالواقع الحرفيّ إلى أبهاء الواقع الفني ، وأن يطل من خلال الخاص على العام ، وأن يضع ملامح الوجه المتفرد على كل جزئية من جزئيات عمله (شكلا ً، ومضمونـًا ، وبناء ، ولغة ، وأسلوبًا ، ورؤية) .
مَـسـرحـة ُالـقـصـــــة
تحويل القصة إلى عمل مسرحيّ يحتاج إلى ما يلي :-
1 - فــهـم القصـة بشكل عـام ، وفهم الموقـف ، وإيحاءات الـنـص .
2 - إدراك ما يمكن أن يتحول إلى مشاهد ، أو خلفية بيئية للديكور .
3 - إدراك المشاعر والمعاني الخاصة بالنص: بحيث يفهم ما يساعد على إخراج النص ، ونعني بالإخراج هنا ما يعبر به الممثل بالصوت ، وطريقة الأداء ، والحركة ليعبر عن مضمون جملة حوارية .
4 - تحويل أحداث القصة إلى حوار ، أو حديث يشترك فيه طرفان : وقد يكون الحوار بين : (فردين مع فردين ، أو فرد مع مجموعة أفراد) .
5 - قد يغير محور النص وقائع الأحداث ، أو زمانها ، أو مكانها ، أو في النهاية ، تبعًا لرؤيته مع مراعاة عادات وتقاليد البيئة .
6 - مراعاة الزمان والمكان ليتناسب ذلك مع خشبة المسرح .
7 - اختصار أحداث وأشخاص القصة ؛ لإبعاد المسرحية عن التطويل .
8 - الاهتمام بإضافة ما يُناسب المسرحية ، ويُساهم في إخراجها .
9 - عدم غياب أحد الممثلين لفترة طويلة عن أنظار الجمهور؛ ليبقى دوره حيًا في أذهانهم .
10 - أن يتم إسقاط الدور ، أو جملة الحوار التي لا تساهم في بناء الفكرة .
تــاريــخ القــصــــــة
في العصور الوسطى ظهرت نوعيتان من القصص :
1 - الفابليو (أي الخرافة الصغيرة): وهي حكايات شعبية شاعت في فرنسا ، من :(منتصف القرن الحادي عشر ، إلى أوائل القرن الرابع عشر)، وكانت تميل في طابعها العام إلى المَلهاة . وقد تحمل بعض الطوابع الخلقية ، أو الاجتماعية ، أو الواقعية ، أو النقدية ، أو اليومية التي تعانيها الجماهير . وقد استفاد هذا النوع من الآداب الشرقية : (العربية والهندية)، عن طريق (كليلة ودمنة)( ) أثناء الحروب الصليبية ، كما أثبت ذلك « جاستون باري » .
2 - قصص الحب والفروسية : وهي قصص يختلط فيها حس الفروسية بحس الحب . وهنا يبرز دور العرب في تلقي هذه الظاهرة الفنية ، والإشعاع من خلالها على أدب العصور الوسطى . وعلى الرغم من أن اليونان عرفوا الحب وكانت له في فلسفة « أفلاطون » بالذات مساحة غير مَنكـُورة ، إلا أن العرب أنزلوا هذا الحب من سماء التجريد إلى أرض الواقع ، وحصروه في المرأة بعد أن كان شائعًا لا يقتصر على المرأة وحدها ، وخلطوا حس الحب بحس الفروسية تحت وقع إحساس الفارس بأنه مناط لحب الجميلات ، فأعطوا في ذلك عطاء بلا حدود ، مما لم يعهد مثله في الآداب الأوربية آنذاك .. إلا أننا يجب أن نلاحظ أن تأثير العرب كان في مضمون القضية وليس في إطارها الفني ، كان في إشاعة معنى الحب والفروسية ، وليس في إشاعة (قصص) الحب والفروسية .
ومن الثابت تمامًا أن هذا التحول في فهم الحب ، وعلاقة الرجل بالمرأة تم على أثر اتصال الغرب بالشرق من خلال الحروب الصليبية ، وعن طريق العرب في الأندلس .
وفي عصر النهضة الكلاسيكي ظهر نوعان من القصص : -
1- قصص الرعاة : وهي قصص حب تبدو أقرب إلى الواقع من قصص الفروسية ؛ فالحوادث فيها إنسانية الطابع ، وأبطالها دائمًا من الطبقة الأرستقراطية ، ولكنهم يلبسون أقنعة الرعاة والراعيات ، وقد نشأت هذه النوعية القصصية أولاً في الأدب الإسبانيّ ، ثم في الأدب الفرنسيّ .
2- قصص الشطار : وقد ظهرت هذه القصص في القرنين :(السادس عشر ، والسابع عشر) في أوربا ، وقد وُجدت أول ما وُجدت في إسبانيا على التحديد ، وتتميز هذه القصص بأنها خطت نحو الواقع خطوات فسيحة .. وكان المُؤَلِف يحكيها بضمير المتكلم كأنها حدثت له ، ويملؤها بهجاء المجتمع ، ويبدو البطل من خلالها بوهيميًا ، هائمًا على وجهه ، منفصلا ًعن مجتمعه ، نفعيّ النظرة والحكم ، غريزيّ الإحساس بالأشياء ... وهي تبدو مواجهة تمامًا لقصص الرعاة ، حيث لا مثالية فيها ، ولا تحليق فوق الواقع المباشر الغليظ .
ويوجد شبه ما بين قصص الشطار والمقامات العربية ، ومن المؤكد تاريخيًا أن مقامات « الحريري »( ) عرفت في الأدب العربي في إسبانيا ، وقد ألف « ابن القصير الفقيه » على غرارها في أواخر القرن الثاني عشر . ويؤكد رواج هذه المقامات في إسبانيا والتشابه بينها وبين قصص الشطار في الأدب الإسباني تأثر الكـُـتـَّاب الإسبان بما في قصصهم ، وكان المنحى الواقعي في الأدب الإسباني الذي شاع في قصص الشطار ذا تأثير في القضاء على قصص الرعاة ، وفي التقريب بين القصة والواقع ، مما أثر في كتابة القصة الأوربية ؛ فتخلصت من الطابع الملحمي في خوارقه الفاقعة ، ومالت إلى الواقعية ، وظهرت قصص العادات والتقاليد ، كما كانت الكلاسيكية ذات أثر تحليليّ نفسيّ في القصة .
وفي أواخر القرن الثامن عشر ، وفي ظل " الحركة الرومانتيكية " ظهرت : -
1- القصة الاجتماعية : التي تمثل تطورًا طبيعيًا لقصص العادات والتقاليد ، وقد استجاب هذا اللون لطبيعة الحركة الرومانتيكية في ميلها الجارف إلى إنصاف الفرد ، وإعطائه حقوقه ، وإشاعة التعاون الاجتماعي ، والروح الديمقراطي ، وتسليط الضوء على زوايا العقد ، والمشكلات الاجتماعية .
2- القصة التاريخية : التي كانت صدى لحرص الرومانتيكيين على إحياء ماضيهم الوطنيّ التاريخيّ ، ويعد « والتر سكوت » ( ) الأب الشرعيّ للقصة التاريخية في أوربا .
وفيما بعد " الرومانتيكية " ، استكملت القصة كيانها الفني في الآداب الأوربية ، واستوعبت في رحلة تطورها عناصر الواقعية المذهبية ، وغيرها من المذاهب التي تلتها ( ) .
أما في الأدب العربيّ : فلم تكن القصة ذات شأن في أنماطه القديمة ، حتى اللون الساذج الذي ظهر منها فيه لم ينهض برسالة اجتماعية أو إنسانية ، وظل محصورًا في مفهوم خاص ، وكانت أشيع في التاريخ والسير، والوصاية منها في الأدب الخالص ، ونستطيع أن نركز على الأنماط التي تعد قصصًا حقيقية ( ) ، وهي : ألف ليلة وليلة ، والمقامات ، ورسالة التوابع والزوابع ، ورسالة الغفران ، وحي بن يقظان . وتفصيل ذلك هو :
1- ألف ليلة وليلة : من المُؤكد أن الكتاب كان معروفـًا لدى المسلمين في أصله قبل(منتصف القرن العاشر الميلادي)، وهو قصص خرافية ، تدور في عالم مليء بالمخاطرات والغرائب ، وأصله في الفارسية يعرف باسم (هزاز أفسانة) أي " ألف خرافة " ، ثم تناوله الأدباء الشعبيون بالتهذيب والزيادة ، حتى أصبح أدبًا شعبيًا ، وهناك أصول كثيرة تداخلت في تأليف هذا الكتاب ،(عربية ، وهندية ، ويونانية)، وحين تُرجم إلى الأدب الأوربي - منذ القرن الثامن عشر- ترك آثاره العميقة في الأدب الأوربي : قصة ، ومسرحًا ، وشعرًا غنائيًا ( ).
وفي العصر الرومانتيكي شاعت (ألف ليلة وليلة) بالنظر إلى طابعها الهروبيّ الموغل في الاتكاء على العاطفة والخيال ، وليس على العقل في الاهتداء إلى الحقيقة ، كما فعلت « شهرزاد » مع الملك شهريار ، وقد عاد الأدب الأوربيّ ليؤثر في الأدب العربيّ بـ(ألف ليلة) من هذا المَنحى العاطفيّ ، كما حدث مع : أديبنا « توفيق الحكيم » (1898م - 1987م) في تأليفه لمسرحية (شهرزاد)، وكما حدث في قصة (القصر المسحور) التي كتبها « طه حسين » (1889م - 1973م) بالاشتراك مع « توفيق الحكيم » (1937م)، ومسرحية (شهريار) (1954م) لـ« عزيز أباظة »( ) . ومسرحية (شهرزاد) للأديب « علي أحمد باكثير » ( ).
2- المقامات : والمقامة في الأصل معناها : المجلس ثم أطلقت على ما يُحكى - بشكل فني - في جلسة من الجلسات ... وتعتمد على الحكاية القصيرة التي يسودها حوار درامي ... وتنطوي على مغامرات يرويها راو عن بطل صعلوك محتال ، ذكي حاضر البديهة، قادر على خداع الجماهير ، والظفر منها بما يريد ... وقد يأخذ هذا البطل شكل الناقد الاجتماعي ، أو شكل المصلح السياسي ، أو شكل الفقيه اللغوي ، الذي يعي تمامًا طبيعة العلاقات السائدة في عصره ومجتمعه ... وقد نهض بمهمة البطل في أكثر مقامات « بديع الزمان الهمذانيّ »( ) (أبو الفتح الإسكندري) ، وبمهمة الراوي « عيسى بن هشام » ... وفي مقامات « الحريري » (1054م - 1122م) نهض بمهمة البطل « أبو زيد السروجي » ، وبمهمة الراوي « الحارث بن همام » ... وقد كان يمكن لهذا اللون الأدبيّ أن يصبح في الأدب العربيّ جنسًا أدبيًا مستقلا ً، إلا أنه ما لبث أن تخفى في أردية التقعر اللغويّ ، والمماحكة اللفظيّة ؛ فغَابَ تعميق مساره الفني في هذا الاتجاه الذي كان مأمولا ًمنه بلا حدود .
وأول من كتب(المقامات) هو« بديع الزمان الهمذاني » (ت 398هـ)، ثم تبعه « الحريري »(القاسم بن على بن محمد بن عثمان)في ق 6هـ ... وقد أتاحت المساحة الزمنية بين الوجود التاريخيّ لكل من المؤلفين ، نوعًا من التفوق ، فقد امتاز « الحريري » على سلفه ، فأعطى المقامة بُعدًا قصصيًا ونفسيًا يضئ جوانب شخصية البطل من جهة ، ويخلع على العمل روح القصة الحقيقية من جهة أخرى .
والنموذج البشريّ الواقعيّ هو بطل المقامات عند المؤلفين ، إلا أنه عند « الحريري » أكثر التزامًا بالواقعية الحرفية ؛ لأنه بالفعل شخصية تاريخية حقيقية ، وقد تأثر الأدب الفارسيّ بالأدب العربيّ في فن المقامة ؛ فألف « حميد الدين البلخيّ » (ت 559م) مقامات يسير فيها على نهج « بديع الزمان » و« الحريري » ، كما يعترف في مقدمة مقاماته الفارسية ، على الرغم من وجود وجوه مفارقة بين النوعين ، فهو لا يلتزم راويًا بعينه ، ولكل مقامة عنده بطل مجهول الاسم والمصير، مع توسعه في مجال المناظرات والتصوف .
ولقد تأثر (الأدب الأوربيّ) هو الآخر بـ(الأدب العربيّ) في هذا المجال تأثرًا عريضًا متنوعًا ، فقد استفادت (قصص الشطار) الإسبانية من المقامات فنيًا وموضوعيًا ، ثم امتد التأثير من الأدب الإسباني إلى سائر أنواع الأدب الأوربي ، فأجهز على قصص الرعاة ، وقـُرب القصة من الواقع المُعاش ، وولد نوعًا من قصص العادات والتقاليد التي تطورت إلى القصة الاجتماعية .
3- التوابع والزوابع : مؤلفها هو « ابن شُهيْد » ( ) ، وهي مغامرة خيالية في عالم الجن ، يصور فيها المؤلف لقاءاته بشياطين الشعراء السابقين ، وتدور بينه وبينهم مناظرات ومساجلات أدبية ، تـَعرض لكثير من مشكلات الفكر ، والأدب ، والعقل ، والبيان ، بطريق قصص ساذج إلى مدى بعيد ، ولكن قيمته الحقيقية تكمُن في ارتياد هذا الأفق البِكر ، وقد سبق « أبا العلاء »( ) في التحليق في جو (الإسراء والمعراج) . وقد اختلف في تأثر « أبي العلاء » بـ « ابن شُهيْد » ، أو « ابن شُهيْد » بـ« أبي العلاء » ولكنهما معًا تأثرا بـ(الإسراء والمعراج).
4- رسالة الغـفـران : لـ« أبي العلاء المعري » (ت249هـ). وهي رحلة خيالية في عالم ما بعد الحياة . واستطاع « المعري »أن ينفض فيها عن صدره ما ضاق به في الواقع الحي من مشكلات : (الفكر ، والعقل ، والفلسفة ، والاجتماع ، والدين ، واللغة) من خلال السخرية تارة ، والنقد الموضوعي تارة أخرى . والرسالة تبدو على جانب عظيم من الخُطورة في اقتحامها هذا العالم البكر، وفي تصديها لكثير من المقولات الحياتية ، والغيبية على نحو من الجُرأة والتحرر .. ولكن الأشياء الكثيرة المعترضة لانسياب الرحلة الطبيعية والموضوعية تضعف من القيمة القصصية للرسالة .
وهناك تشابه لا يُنكر بين (رسالة الغفران) و(الكوميديا الإلهية) لـ« دانتي »( )... في نوع الرحلة ، وفي أقسامها ، وفي كثير من مواقفها ؛ ولكن نتائج البحث العلميّ أكدت أخيرًا أن « دانتي » لم يتأثر بـ« أبي العلاء » بالذات ، ولكنه تأثر بمصادر عربية أخرى ، في طليعتها قصة (الإسراء والمعراج).
5- حي بن يقظان : ألفها « ابن سينا » (ت 438هـ) على طريقة الصوفية في الرمز ، فـ« حي » رمز للعقل الفعال ، أو النفس المُفكرة ، وهذا العقل (حي) دائمًا ، و« ابن يقظان » كناية عن صدوره عن الله القيوم الذي لا تأخذه سِنة ولا نوم ... والرحلة - موضوع الرسالة - ترمز إلى طلب الإنسان للمعرفة الخالصة مستعينـًا بقدرة العقل الفعال الذي يهدي إلى الحق ، ومحذرًا من خداع الحواس ، والتخيل المتخلق للزور... وقد تأثر الأدب العبريّ بهذه القصة ، حيث قـُرئت فيه ، وتـُرجمت إليه .
وقد ألف الفيلسوف العربيّ « ابن طُفيل » (ت 1185)( ) ، رسالة أخرى بعنوان (حي بن يقظان) . ومُوجز هذه القصة : أن طفلا ًاسمه « حي بن يقظان » وُلد في جزيرة مهجورة من جُزر الهند دُون خط الاستواء ، ولم يعرف له أبًا ولا أمًا ، فربّته غزالة ظنته ولدها المفقود ، وحين تفتحت عينا هذا الطفل على الوجود من حوله ، أخذ يتأمل ويفكر، حتى اهتدى إلى كثير من حقائق الكون ، وحقائق ما بعد الطبيعة ، ولكن صوفيًا آخر كان يتعبد لله على دين أهل جزيرة متاخمة ، وفد على جزيرته ، والتقيا ، فعلمه هذا الصوفيّ « أسال » اللغة ، والشرائع السماوية ، واصطحبه إلى الجزيرة التي وَفد منها ؛ رجاء أن يستطيعا معًا هداية أهلها إلى ما توصلا إليه من الحقائق الكبرى ، التي عرفاها عن طريق الإشراق الروحي ، ولكنهما لم يفلحا ؛ فعرفا في النهاية أن هذه الحقائق الكبرى لا سبيل لها إلى قلوب العامة ؛ فتركا أهل الجزيرة على عبادتهم القديمة ... ورجعا إلى جزيرة « حي بن يقظان » ؛ ليتعبدا على طريقتهما حتى يرحلا عن عالم الأغراض إلى عالم الجواهر .
وقصة « ابن طفيل » أقرب إلى الفن القصصي من قصة « ابن سينا » من حيث الشرح ، والتبرير ، والإقناع من وجهة فنية ، ومحاولة المؤلف مزج الآراء الفلسفية بالقصص الشعبي .
6- سلامان وأبسال : وهي قصة من القصص الفسلفية القديمة ، ترجمها « حُنين بن إسحق » ( ) من اليونانية وكتبها « ابن سينا » ، وهي ذات صبغة صوفية ، وقد نظمها « عبد الرحمن جامي » شعرًا باللغة الفارسية .
ومن الحق أن كل هذه الألوان ليست من صميم الجنس الأدبيّ الذي نسميه (قصة) ، فإنها تعد البداية لهذا الجنس الأدبيّ في الأدب العربيّ ، والذي تطور فصار في (العصر الحديث) ظاهرة حقيقية لها حلولها الفنيّ في التاريخ .
وفي هذا المجال يبدو الأدب الغربيّ رافدًا أساسيًا ، وقد تطور التأثير بهذا الفن من قصص شبيهة بالمقامات العربية (كحديث عيسى بن هشام) لـ« محمد المويلحي » (1868م - 1930م) (التي بدأ نشرها 1898م) إلى قصص اجتماعي مستفيدمن تقنية الفن القصصيّ العربيّ كـ(ليالي سطيح) لـ« حافظ إبراهيم »( )... إلى قصص متأثر بألف ليلة ، والمقامات ، وقصص الفروسية من حيث عنايته بالتعبير والتطوير كقصة لادياس (1899م) لـ« أحمد شوقي »(1868م - 1932م). ومنذ أوائل ق 20 م احتذت القصة العربية الآداب الأوربية ، بعد أن تحررت من أصولها العربية ، واقتربت من الشكل الفني للقصة الحديثة فتأثر: « مصطفى لطفي المنفلوطي» ( )(1876م - 1924م) بالرومانسية القصصية ... وحاكى« جورجي زيدان » ( )(1861م - 1914م)« والتر سكوت » (1771م - 1832م) في القصة التاريخية ... والتزم « محمد فريد أبو حديد »( )(1893م - 1967م)قصص النزعة العاطفية والقومية ... والتزم « محمد حسين هيكل »(1888م - 1956م)، و« طه حسين » (1889م - 1973م)، و« تيمور » الاتجاه الاجتماعي ، و« العقاد » (1889م - 1964م) ، و« المازني »( )(1889م - 1949م) الاتجاه التحليلي ، و« توفيق الحكيم » (1898م - 1987م) الاتجاه الإنساني . و« نجيب محفوظ » (1911م - 2006م) الاتجاه الواقعي .
ميلاد القصة في مـصـر
من النقاد من يرى أن ميلاد القصة في مصر كان سنة (1917م)، حيت قدّم « محمود تيمور » (1894م - 1973م) قصة بعنوان : (في القطار)، ثم توالت كتابة القصة بغير علم بخصائصها الأدبية ، وسماتها الفنية ، ولم تكتمل القصة إلا بعد ثورة (1919م)، حيث كثر كُتّاب القصة ، يُذكر منهم :(عيسى عبيد ، وشحاتة عبيد ، ومحمود تيمور ، وإبراهيم عبد القادر المازني ، وتوفيق الحكيم)، وغيرهم .
القــصـــــة الإدريـسـيـة
شق « يوسف إدريس »( ) للقصة المصرية طريقـًا جديدًا ، وأسهم بشكل بارز فيها ، وكان كاتبًا واقعيًا اشتراكيًا له فكره الثوريّ ، ودعوته إلى التغيير والإصلاح ، حيث يرتفع صوته كمُؤلف في كثير من الأحيان على صوت الراوي الذي خلقه ، وهو واحد من حبات تلك المنظومة المتميزة من أطباء أدباء ، المنظومة التي تشمل الدكاترة : (إبراهيم ناجي - محمد كامل حسين - مصطفى محمود - نوال السعداوي - أحمد تيمور ... وغيرهم) ممن جمعوا بين الثقافة العلمية ، والحساسية الفنية ؛ فأنتجوا أدبًا يعبر الهُوة الفاصلة بين العقل والوجدان ، وأقاموا جسرًا بين " الثقافتين " : (الأدبية ، والعلمية)( ).
يقول عنه « ألفريد فرج » ( ) :
" إن نقل « يوسف إدريس » الأدب القصصي من مجال إلى مجال ، ومن فئات متوسطة لامعة ، إلى فئات ضائعة ، معدمة ، ليس مجرد فعل مهني أو أدبي ... إنما هو فعل فوق الأدبيّ ، وفلسفي فكري ، ولقد كانت مهنته الأدب ؛ ولكنه كان رائدًا لا يمكن فهم أدبه إلا على ضوء فكره وفلسفته " .
أما الناقد الدكتور « شكري عياد »( ) (1921م - 1999م) فيرى أن :
" « يوسف إدريس » يرتفع إلى أفق الملاحم بجلالها وثِقلها ، فقد استخرج من أوتار النثر العربي كل النغمات الممكنة ، ولقد كانت بطولاته واقعية تنبت في أرض الفقر ، والمرض ، والحرمان ، وكان لها وجهها الآخر الذي يهبط بها إلى الحضيض ، وفي لحظات من حياة الشعب المصري في الخمسينيات والستينيات كان يبدو كما لو أن ثمة إرهاصًا بعظمة ملحمية قادمة في الطريق - ولكنها كانت دائمًا إرهاصات كاذبة " ( ) يقول عنه الناقد « عبد الرحمن أبو عوف » :
" إنه يدمج السرد مع الوصف والحوار في نسق بنائي جمالي له عذوبته ، وبلغة عامية مندفعة متوهجة ، وينفذ إلى قاع نفوس أبطاله ، ويتقمص دوافعهم وغرائزهم ، وينسج بعبقريته ملامح شخصياته من قاع الريف والمدينة " .
أما الدكتور « جابر عصفور»( ) ، فيقول عنه :
"هو كاتب عالميّ بالرغم من أنه لم يحصل على "نوبل"( ) ، وإنجازه يفوق بعضًا ممن حصلوا عليها " .
(1) إبـراهـيـم الـرفــاعـــي ، و : (الـغـريــــب) في لغة مميزة في القص ، وعوالم شديدة الخصوصية ، وسط ضجيج المسافات ، يُقدم لنا القاص « إبراهيم الرفاعي » ( ) الواقع ومفرداته اليومية في مجموعته القصصية (الغـريـب) ، ومن هنا يمكن الحديث عن حداثة النص القصصي ، وهو بطبعه ينقطع عن السلسلة الثقافية العربية القصصية التقليدية ، ليكون وجهًا من وجوه تحديثها ، وعلى تخوم هذه المجموعة يصوغ القاص أنموذجه الخاص داخل الأنموذج العام ، ليكون صوتـًا جديدًا يضاف إلى الأصوات العديدة التي تكتب هذا النوع من الفن ، وتبنى أركانه من خلال مشاريعها الأدبية الإبداعية .
ففي أقصوصة بعنوان (برواز) يلمس القاص المكان ، ويأخذ الدلالات التي ينقلها إلى هذا المكان ليثريه ، ومن وهج الانتظار ينكسر الحلم ، مع إحساس دفين بالمرارة والإحباط ، ويتحول الشرف إلى وشم على ظاهر الجسد ، حيث يستدعي الحضور الغياب ، لا أبواب موصدة ، ولا نوافذ مغلقة ، لا يأس ، ولا قيود ولا جمود ، بل دفق أمواج من لهفة في السرد يشرق شَمسًا من أمل ، ويطلق قمرًا في ليل ، فيتسلل شعاع الدفء إلى الأغصان اليابسة ؛ لتورق فينا الأحاسيس تجاه ما يحدث ويجري : (ميادة بنت العـشرين تغدو وتروح مع بنات شقيقاتها ... أحست بفحولته تنتفض ... ذعرت وانتفضت ... انسلت من بين يديه ...), تتواصل الصور دون الارتباط بتفسير ، يتنامى الانفعال ، ويتصاعد إلى ذروة التعبير ، الذي يعكس الرغبات المكبوتة المتوارية خلف الكلمات ... اللقاء سريع ، والفراق أسرع ، ولغة السرعة صفة العصر والقص ، ننتقل من الـ(برواز) إلى إطار آخر وأقصوصة أخرى :(الفأر يأكل الكايزر) حيث العاطفة في أوجها تختلف عنها في لحظات التلاشي بعد الإكتفاء ، تفاصيل تدور في حلقات مفرغة ، الصيف والشتاء على سطح واحد ، والمشاعر المتوهجة تكتسي برماد الخيبة ، والسرد يضع نقطة النهاية :(ما أن ينتهي المسكين من طعامه حتى التقطت المصيدة ... وألقت بها من النافذة) ، ولا تبقى حداثة السرد أو تنحصر في شكل واحد أو أنموذج محدد ، فالقاص يبذل أقصى جهده وأقصى ما في وسعه ؛ ليجعل مهمة المتلقي سهلة ميسورة ممتعة ، وهو يضع في اعتباره جمهور القراء العاديين الذين يملكون حسًا فطريًا في التذوق الفني الذي يَشمل معظم المعايير الجمالية التي يلهث وراءها النقاد ، وهو يترك لنا الأثر الذي يقصده تمامًا فتزهر تلك المروج الغافية ، وتستيقظ عشبة الروح بجوار جداول الصحو ، تفك طلاسم الحزن المباغت ، وهو يستخدم من اللفظ ما هو مألوف لدى المتلقي متعارف عنده ، يُدهشنا ذلك الفيض الزاخر من العذُوبة ، وخِفة ظل الفكرة ، وتوظيف ما يدرج على الألسن ؛ لتثبيت اللفظ الأصيل دون إقصاء الدخيل ، فيسعدنا تشعُب مَسَاراته ، وتعدد رؤاه واتجاهاته ، وشفافية حلمه الذي يمتزج بالوجود ، الذي كان عونـًا له على الارتكاز ، مع الإنطلاق والسير نحو جماليات القص، التي تنمو عليها البراعم الجديدة المبتكرة من ضروب الخيال ، وفي: (كافتيريا ريم)..(السيجارة في عُرفِهم حضارة ، والشيشة انفتاح) بتراكم الصقيع تهدهدنا أراجيح الترقب أمام غفلة الإحباط عندما ننظر من ارتفاع شاهق إلى ما يجري ويدور أمام أعيننا ، نرى الفراغ الكبير، والهروب الأكبر الذي يحكي لنا كل غريبة ، ويأتي بكل أعجوبة ، فالخادمة تسيء معاملة الطفل ، وإذا بكي توقف البكاء (بنصف قرص منوم من الصيدلية المجاورة)، والأقصوصة صدى لما يحدث في الحياة بصدق مع فئة معينة في المجتمع لها نقائصها المُنفرة ومآسيها المروعة ، لا تملك وعيًا أو فهمًا ولا تستطيع فِكاكًا من العواقب ، لا يخاصرها سوى الحلم بالغياب .. ويغُوص القاص في دقائق حياة الناس ، فتفترس الأم الشيشة ، وتفترس الخادمة الوليد ، وتطيح بقطع الشطرنج من اللوحة ، حتى نتلمس الطريق إلى جذور المأساة ، ولقد كان « تولستوي » يعيب على قصص « اندرييف » أن تصرفات أشخاصها وأقوالها غالبًا مالا تتفق وتكوينها النفسي ، فيكتب إليه غاضبًا :(ليس من حقك الاختراع عند تحليل النفوس)، وقد قفزت العبارة الأخيرة إلى ذاكرتي بعد الفراغ من قراءة (كافتيريا ريم) ؛ لخلوها من التزييف والاختراع عند تحليل النفوس حيث تبدو الأماكن في صمت مدو ٍ، لا نكاد نسمع أنفاس البطلة مختلطة بأحزانها ، والحال في ذلك كحال رائد الفضاء خارج المكوك في جو انعدام الجاذبية ، مُعلق بين السماء والأرض ، في الفراغ ، وفي دائرة من الرعب ، يختار القاص تقنيات ذكية في التكثيف ، والاختيار ، والهيكلة ، ويقدم مشاهد حميمية من المكان عن ذلك القلب الذي سقط سهوًا ، والقاص يعبر عن رؤية خاصة للمكان ، يتحاور معه ويستنطق بواطنه وخوافيه قبل ظواهره ، يزرع الوهج فوق سياج القلب ، ويرفع بيارق الروح فوق مسافة الزمن ، ينثر الأوجاع والمكابدات ، فتنهمر الخواطر كالغيث ، وثقافته الإنجليزية والعبرية تترك بصمتها على المفردات ، فهو يستخدم اللفظ المولد والمعرب والدخيل ، كما يستخدم اللفظ الذي استعمله المحدثون في العصر الحديث وشاع في لغة الحياة العامة ، وهو يُفضل لفظ الخادمة في الأقصوصة التي بين أيدينا ، و(خدمه): قام بحاجته فهو وهي (خادم)، والجمع : خدم وخُدّام ، وهي خادمة ، والعرب حذفت الهاء من نعت المرأة من حروف كثيرة ، منها قولهم : امرأة بالغ إذا أدركت ، ويقولون للأمة خادم والرجل كذلك في هذه الحروف ، ويتناول قضية الشرف في أقصوصة (صبر) من جانب آخر ، فالذئب هنا هو والد الفتاة ، وفي قصة (الغريب) تركيب للواقع الاجتماعي ، وسيف اشتهائه ، حيث تترابط الجزئيات المُبعثرة ، لتشير إلى علاقاته ، وحركته الدائبة الذائبة التي تكشف عن قوانين التغير ، حيث البقاء للأنقى ، ومن نافلة القول الاعتراف بأن تلخيص الأعمال الفنية اعتداء على حرمة بنيتها النصية من وجهة النظر الأسلوبية ، لهذا فقد اكتفينا بالإشارة إلى التمرد الواعي ضد جهامة الحياة التي تعشش في قلب الواقع ، والكشف عن حدة التمزق الإنساني الوجداني ، وذلك بتعرية النص لهذا الواقع ، وكشف أسبابه بالصدق والاقتراب من الحقائق ، والمجموعة القصصية باختصار ، تطل على الواقع ، تخبرنا بحياة قلقة ، ومواقف إنسانية ، وتنهمر من المجموعة قطرات عذبة ، تصنع نهرًا ، يتحول خريره إلى موسيقى شجية للنص .
(2) الـحـمـاقـي المـنـشـاوي ، و : (فـُـرْسـان الظـهـيـرة)
اسـتـلـهــام الـتـــــراث ( )
القصةُ القصيرةُ نهرٌ زاخرٌ فياضٌ ، ينهلُ منه المُتلقي ويرتوي ، يستجلي معاني الكلمات ، ويقيم عَلاقات جديدة معها ، وينير اللحظة الزمنية , ويسترجعها ويحط على جزر في الخيال . وهي فن ممزوج بالرؤى المتباينة التي تصب في أوردته فتكسبه بريقـًا خلابًا ، وتعلق في كل ركن من أركانه شمعة مضيئة . والقصة القصيرة أيضًا مجالٌ رحب للمبدع يدوى به دويًا لا يتوقف ، ولا ينقطع أبدًا ، كأنما هو الطائر الذي لا يقع إلا حيث يطيب له التغريد والتنقير، لا يحده نطاق ، ولا تقيده السلاسلُ والأطواقُ ، وكان لذلك أثره الواسع في انتشار فن القصة القصيرة الذي يخلب ألباب المطالعين بروعه ما يعالج من قضايا ، وما ينمى من اتجاهات ، وما يعرض من معارف متعددة تشبع الحاجات ، وتثير الاهتمامات ، و تجد صداها في النفس ؛ ليتاح لها أن تقول : هذا كتابنا بيميننا , وعلى أساسه يكون الحسابُ . والمُبدع الحقيقي هو من يمتلك القدرة على إضاءة عالمه الإبداعيّ , الذي تشكلُه كتابةٌ واعيةٌ مع إدراك الروابط المفقودة بين الأشياء ، واستكشاف العلاقات ، لتفكيكها ، وإعادة صياغتها بروابط جديدة لها علاقة وثيقة بأحاسيسه ، ومشاعره ، وطريقته التي ينفرد بها في معالجة الأمور . و" فـُرْسان الظهيرة " مجموعة قصصية للأديب « الحماقي أحمد المنشاوي »( ) ، صدرت عن الهيئة المصرية للكِتاب ضمن سلسلة :" إشراقات جديدة " عام (2007م)، وتقع في (92 صفحة من القطع الوسط) ، وتضم بين جلدتيها اثني عشر قصة قصيرة كتب عنها الأستاذ الدكتور الراحل « على أبو زيد » دراسة ألحقها المؤلف بالمجموعة التي تبدأ " بفرسان الظهيرة " إذ جعلها المُؤلف عنوانـًا ، وتنتهي بالأحجار والأغنيات . والعنوان له طبيعة شديدة الخصوبة والحساسية ، يطل على فضاءات من التوهج الروحي ، والمعنى الرمزي لجنود مصر الذين عبروا القناة واستردوا الحق السليب عام (1967م)، وأسقطوا الحزن من طقوس الاعتياد ، وأزاحوا عن وجه الوطن عتمة الإنكسار ، وقاموا بصياغة النصر في وَجْه الحياة .
العـنـوان وتـدفــق الـســــرود
والقاص في هذه المجموعة القصصية لم يأخذ بالأنماط المألوفة في التركيب , وقد عرفنا أثر الإلف في الذهاب بالروعة في السرد . وتتميز المجموعة القصصية للأديب « الحماقي أحمد المنشاوي » بخلوها من ضعف التأليف , وتنافر الكلمات , وتخلو من التعقيد اللفظي والمعنوي ، وكثرة التكرار والغرابة ، ومخالفة القياس ، والكراهة في السمع ، إذ راح القاص يكسو السرد حلة التزيين ، ويرقيه أعلى درجات التحسين ، ليعبر عن وجدان الناس وعقولهم ، وما اختلج في قلوبهم من مشاعر ، وما اضطرب في أذهانهم من خواطر وأفكار . وإذا تأملنا العنوان (فـُرْسان الظهيرة) وجدناه يدخل من ممرات وأبواب كثيرة ، فـ(الفارس) : الماهر في ركوب الخيل ، والجمع : فَوَارس ، وفُرْسَانٌ ، والفُرْسان ُفي الجيشِ : المُحاربون على ظهورِ الخيل ِ ، والفارس : الأسَدُ ، وأبو فِراس : كنية الأسد ، والفارس : الحاذق بما يمارس من الأشياء ، و(الظهيرة) : الظُّهر ، والظهر : ساعة زوال الشمس ، والجمع : ظهور ، والعنوان ناسب المجموعة ، وفيه انبثاق وتفجر ، والقصة توجز لحظة العبور ، وتتواصل مع الأجيال ، وتسكب فوق الربا الكبرياء حتى يرفع العَلم المصري : (ظللت لحظة ممسكًا بالعلم الخافق ، تسيل الدماء من ذراعي تتلقفها الرمال حول العلم)(ص 10). ويتدفق السرد حارًا من خلال صوت حميم في بناء لغوي شامخ ، يؤسس فجره الخاص الذي يشكل الفكرة :((صوت الأنفاس يُسْمَعُ)، محركات المركبات زأرتْ ، تدخّل « شكري الطناحي » بصوت مختلج ، وقع الرعود (والرعد : صوت يدوي عَقِب وميض البرق)، وبرغم ضجيج الدّمدمة سمعنا صيحة ، الصيحات تتدفق ، الكل يهدر ، تهتز الرمال لصيحتي). والصوت عند الحقيقة الكونية يتميز بموجاته التي يتناولها عِلم الصوت في (الفيزياء) بالتحليل والقياس ، فيَعْرِف لهذه الموجات أطوالَها ، وسرعاتها ، وهو (صوت) في الطبيعة الخارجية ، يسجله السرد أو لا يسجله ، لكن الإنسان بمشاعره يصنف الأحداث الطبيعية على هواه فيقول : هذا رعدٌ ، وهذا زئيرٌ ، وليس في حقائق الطبيعة ما يحفل ويهتم بالرعد والزئير ، فهذان من ذات المتلقي الإنسان وميوله ، فحقائق الأشياء كما هي واقعة لا تفرق بين الرعد والزئير . فكلاهما (صوت) ، وكلاهما اهتزازات للهواء ، كلاهما ينصاع في حدوثه ، وفي مساره لقوانين محددة ، معلومة عند علم الصوت في الفيزياء ، أما الذي جعل هذا الصوت رعدًا ، أو زئيرًا ، فذلك هو الإنسان , وأهواء البشر , وتفاعلهم مع هذه الأصوات . ومن هنا فملامسة النص من الأمور التي تحتاج إلى إحداث صلة معرفية ووجدانية وعقلية مع الذات ، والتراث والواقع .
لحـظـات فـوق الـظـــلام
وفي قصة : " لحظات فوق الظلام " يحمل السرد لونـًا من ألوان الإحساس الكاوي بتنائي الحلم ، إذ تتهاوى طيور العمر ، وتسقط آمال شعب :(نحن نحتفظ بالأمل لكيلا يفلت من حنايانا ، وسواعدنا تسنده)(ص 17). وتتجلى إرادةُ أمةٍ ذاقت طعم الوجع ، وعاشت يتم الفجيعة ، وفي حمأةِ هذه الملابسات تلوذ بالربان :(توسلوا إليه بالرجوع إلى الدفة ، فالسفينة تحتضر)(ص 16). ومع ألوان من الحزن وسكرات للموج ، ولهفةِ الوطنِ لارتعاشات المطر ، يزول طيف الفراق ، فالإرادة هي الترياق الشافي لكل أوجاع الوجود ، والاستنارة تحمي الشعوب من السقوط في براثن محن ساحقة ، وممرات مظلمة حالكة السواد ، وأزمات طاحنة ، وخطوة على الطريق تستدعي العديد من الخطوات ، فقد أدرك القائد مسئوليته كربّان للسفينة ، وشعر بكل ما يحمله شعبه من أحاسيس ، لكنه عاش ممرورًا ، مقهورًا ، وبات محسورًا ، والقاص هاهنا يستخدم أسلوب المونتاج في اختيار وتركيب اللقطات في تتابع معين لا تحمل النص ما يطيق وما لا يطيق ، فيرضى المُتلقي عما يعرف ، ويعجب بما يرى حين يسر القاص إليه بذات نفسه ويملأ القلوبَ أملاً ، ورضًا ، وحبًا للحياة ، وحين يعرض عليه ما جرى في حقبة من حقب التاريخ بلغة تخالف لغة المؤرخين ، لغة تحمل جَسَدَ الأرض ، وحُرمة العِرض ، وعروج الروح إلى الروح .
الألـفــــاظ والـمـعــاني
يواصل الأديب « الحماقي أحمد المنشاوي » شدوه ، مستفيدًا من الطاقات الأسلوبية التعبيرية الكامنة في اللغة ، والتي شَكّلَ فيها المبدعُ نصوصَه تبعًا لقدراته ، واختياراته ، وإيحائه بالمعنى مما يزيد في إيماءات الألفاظ وثرائها المعنوي ، وتعلق الكلام بعضه بسبب من بعض . ولعلى لا أتجاوزُ الحقَّ إذا زعمتُ أن الخصائصَ الجمالية للنصوص القصصية تكمن في نسيج النصوص ، ورونق التعبير ، وسلاسة الكَلِم ، والصياغة المحكمة ، والإحاطة بالأفكار التي تستريح عندها النفسُ وتطمئنُ ، وتشعرُ بمتاعٍ أدبيّ ، والعلاقة وثيقة بين الألفاظ والمعاني ، والصلة بينهما تشبه صلة الروح بالجسد ، فالمعاني هي الروح ، والألفاظ هي الجسد ، ولا يمكن القول بانفصال أحدهما عن الآخر ، وقديمًا قال «الجاحظ »( ):(إنما الألفاظ تدر المعاني ، فكثيرها لكثيرها ، وقليلها لقليلها ، وشريفها لشريفها ، وسخيفها لسخيفها)(وذلك في كتابه الحيوان) . وفي قصة :(كلمات لا تنطق) يخفت الصوت فلا نسمع الأصوات المتعددة ، ونقف عند :(الضجيج ، وصوت عجلات القطار)(ص21). و(الأبواق اللعينة)(ص 22)، ويوظف القاص تراسل الحواس :(سائق العربة يركل المسافرين بضميره)(ص21). و(أعود أدراجي ألعق ما تعهدت به)(ص23)، ويعود الصوت الخافت في الختام :(أبي يتمتم بكلمات لا ينطقها) (ص 24). ويحاول القاص إعادة ترتيب وتنظيم العناصرالحياتية بطريقة أكثر انتظامًا وتماسكـًا ، فيجد أنها أبعد من ذلك ، فهي تستمد عناصرها من عناصر الكون بمعناه الشامل ، والكون الطبيعي ، والتاريخي ، والاجتماعي ، فيهتف (ص 23): (لو أن بصقتي تصل إلى قمة تمثال الحرية !).
وقـفــــة أسـلـوبـيــــة
والمجموعة - التي بين أيدينا - فيها قدر من الزينة والحلاوة التي تنفذ إلى أفئدة المتلقين ، وفيها من المحاسن الدقاق ما يؤهلها للسريان في الأوردة والشرايين ، وسر ذلك يرجع إلى استخدام القاص لغة سردية مركزة العبارة ، موجزة أشد ما يكون الإيجاز ، كأنها السهام تصيب الأهداف من أقصر طريق ممكن ، مع ما يداخل ذلك من نضارة المشاهد التي تجرى تحت أعيننا مشهدًا وراء مشهد ، واختيار الألفاظ وما يطوي فيها من الحسن والرونق ، مع دقة استيعاب لمعانيها ،فلا معوق من لفظ حوشي غريب ، بل صفاء ونقاء بديع . ويمكن أن نلمس هذا في قصة : (الزمن وابتسامة الصبار) :(حيث يعبث ظل (النخلة) بضوء القمر الراقد على صدر أمه الأرض)(ص 25) .
ثم انظر إلى الصياغة التي التزم فيها القاص بأصول استخدام اللغة على اعتبار أن (ها) التنبيه تدخل على الضمير بشرط أن يكون مخبرًا عنه باسم الإشارة ، يقول:(ها أنا ذا عدت بعد فترة إجبارية)(ص 25) ، مع أن مجمع اللغة العربية أجاز عدم استخدام اسم الإشارة حتى تصبح دائرة الصواب اللغوية متسعة لما هو مقرر ومعروف في قولنا : (ها أنا ذا قائل) ، وفي قولنا : (ها أنا قائل) أيضًا .
ونحن نطالع في القرآن الكريم هذه الآيات :
هَاأَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ( ).
هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ ( ).
هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ( ).
هَاأَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ ( ).
ويعرض القاص ذكريات الطفولة :
(مازال يذكرني عم بهاء البقال صغيرًا شقيًا )(ص 25)، و(يدق قلبي كصلصلة أجراس المدارس في الصباح) (ص 26) ، و(كامل العجلاتي زميلي في المدرسة الابتدائية) (ص 27) .
ثم تغوص القصة في أعماق الاستشهاد في سبيل الوطن فهو : (بذرة نصر قريب) (ص 27) . ومن نافلة القول الحديث عن فضل الشهادة في سبيل الدفاع عن الوطن فالشهداء أحياء عند ربهم يرزقون . قال تعالى : وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ).
جـالـوت والـسبـت الحـزيــن
في قصة (جالوت والسبت الحزين) يتحول الإبداع إلى صورة من صور النضال وأمضاها ، لأنه مواجهة بالكشف ، وقيادة للوعي القومي لتستمر حركة المجتمع في مسار التاريخ ، ولحظة عبور الجيش المصري لقناة السويس ، وتدمير خط (بارليف) ومواجهة العدو الباغي من اللحظات التي يحملها المصري في ذاكرة واعية ، وربط المبدع بالواقع يفتح الطريق أمامه ليحقق ذاته في مجتمعه ووطنه بعيدًا عن روح الإحباط ، ذلك لأن الإبداع فردي ، وجماعي ، وإنساني ، وتاريخي ، وإرادي ، وطبعي ، حر ، وحتمي ، يبدأ بالقضاء على موانعه قبل وضع شروطه . والقصة تعمل على خلق علاقات ، تضيف إلى فن القصة الجديد ، أو بعبارة أخرى : نضيف إلى الكون أعماقـًا جديدة ، هي الدلالات ، والقيم ، والرؤى . والنص الذي بين أيدينا اختيار من الواقع ، وخلق لهذا الواقع ، واختيار خلاق يكشف القيم وينميها ، كما يكشف النفسي ، والبصري ، والإنساني ، الداخلي ، والخارجي ، الذاتي ، والموضوعي :(غير الغبار معالم وجهي ، يممته شطر النهر لأغتسل ، لم تستطع كفاي اغتراف ماء ... هل توقفت (إيزيس) عن البكاء فهبط السطح إلى القاع ؟) (ص 31). ويستلهم القاص « إيزيس » فهي من أشهر معبودات الفراعنة واسمها يعني (مقعد)، وكان وطنها الأصيل في الدلتا ، وكان أول أمرها ربة للسماء ، ولما احتوتها أسطورة « أوزيريس » أفقدتها طبيعتها الأولى ، فأضحت زوجة لـ « أوزيريس » ، وأما لولده « حورس » وفي اعتبار هذا الأخير ربًا للشمس ما يشير إلى أن أمه كانت ربة للسماء ، فهي تتمخض عن مولودها الشمس كل صباح ، صورها المصريون في صورة امرأة ومن بين يديها يجري نهر النيل ، وهو يفيض من دموعها التي فاضت حزنـًا على « أوزيريس » ووقوعه ضحية أعمال الشرير« ست » ، وتبدو في الرمز روح مصر وحضارتها وشخصيتها بوضوح . ويهتف صوت (ص 32) (امتلأت مخازن يوسف بكآبة الحصاد) فتبدو السورة القرآنية (يوسف) في الأذهان ، وتبدو الأحداث التي جرت مع النبي « يـوسـف بن يعـقـوب بن إسحاق بن إبراهـيـم » في محنة الجب , والبيع بمصر , والسجن , ثم الخروج منه , وتفسير الرؤيا للملك ، والسبع السنين الخصب ، والسبع السنين المحل ، وانفراج الأزمة ، وفي الحديث أن طائفة من اليهود حين سمعوا رسول الله يتلو هذه السورة أسلموا لموافقتها ما عندهم ، والإيحاءات كثيرة . ثم يهتف صوت :(مازلت صغيرًا لا قبل لك بجالوت وجنوده) (ص 33) فيضفر القاص في الحوار قصة بني إسرائيل بعد « موسى » وعبادتهم الأصنام , حيث سلط الله عليهم أعداءهم ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة , وأسروا خلقـًا كثيرًا ، وأخذوا منهم بلادًا كثيرة , ثم طلب بنو إسرائيل من نبيهم أن يقيم لهم مَلكـًا يقاتلون به أعداءهم ؛ فعيّن لهم « طالوت » وكان رجلا ً من أجنادهم ، وتخلى أكثرهم عن الجهاد ، وعادوا به حزب الإيمان القليل من أصحاب « طالوت » - الأعداء من أصحاب « جالوت » - وهم عدد كبير ، وقتل النبي « داود » « جالوت » بمقلاع كان في يده رماه به فأصابه .
وفي (ص 33) يأتي ذكر (اليرموك) : (خاض اليرموك لينسج بلون السيف الفضي ثوب الحقيقة) فتعود الأذهان إلى معركة اليرموك الشهيرة (سنة 636م) التي وقعت بين الجيش الإسلامي بقيادة « خالد بن الوليد » والبيزنطيين بقيادة ملكهم « هرقل » ، فكان نصر المسلمين . ونهر الي رموك من روافد نهر الأردن يجري أولا ً قرب حدود سوريا وفلسطين ، ثم ينحدر جنوبًا إلى فلسطين ، ويصب جنوب بحيرة (الحولة) . ثم يأتي ذكر « هولاكو » (ص 33): (هولاكو فعل نفس الشيء ، واجتاح المشرق مجتازًا دجلة) ، فتعود إلى الذاكرة معركة (عين جالوت) (658هـ - 1260م) ومقدرة مصر الحربية بقيادة « قطز » ، حيث عاد « هولاكو » إلى عاصمة المغول الكبرى في (قرة قورم) ، وترك على رأس قواته « كتبغا » الذي خر قتيلا ًفي المعركة ، وانتصرت القوات المصرية الشامية على المغول .
ويأتي ذكر « القعـقاع » (ص 34) : (الساقية ما زلت تئن وتعطي .. إلى زمن (القعقاع) يرجع عمرها ، نقشوا عليها سنبلة لذكرى اقتحامهم النهر وهم على ظهور الخيل في قمة فيضانه).
فيتذكر المتلقي « القعـقاع بن عمرو التميمي » ( ) ، الذي قاتل الفرس في القادسية وغيرها ، وكان من أشجع الناس وأعظمهم بلاء ، وعصره عصر البطولات والفتوحات ، و« القعـقاع » هو الذي قال فيه « أبو بكر الصديق » : (صوت « القعـقاع » في الجيش خير من ألف رجل).
ثم يأتي ذكر « أحمس »(ص 34): (بهرني (أحمس) وقوسه يضوي في الشمس مطاردًا فلول الحقد الغارب) . فتأتي لوحة تاريخية أخرى لـ« أحمس » الذي توفي (1545 ق . م) ، فهو أول ملوك الأسرة 18 . وهو مؤسس الدولة الحديثة حكم (1570 - 1545 ق . م) ،وهو البطل الثالث في معركة التحرير من حكم الهكسوس , والذي حرر البلاد منهم بعد أن هاجم عاصمتهم (أواريس) ،وحاصر آخر معقل لهم (شاروهين) قرب العريش لمدة ثلاث سنوات ، ثم طاردهم إلى موطنهم الأصلي في (فلسطين) وبذلك وضع حجر الأساس لإمبراطورية مصرية حرة ( ) .
ثم تفر الصورة وتحل محلها صورة أخرى بالعودة إلى (قطز وهولاكو) حيث ظهرت صورته من قبل في إشارة إلى السلطان« قطز » الذي رفض خطابًا مليئـًا بالتهديدات المخيفة ، أرسله إليه « هولاكو » قائد المغول الذي وصلت طلائعه بلاد الشام واقترب من فلسطين ، إذ أمر « قطز » بقتل حاملي تلك الرسالة إليه من قبل المغول ؛ دلالة على إعلانه الصريح لتحدي المغول ، وإعلان الحرب الشاملة عليهم كذلك .
كـشــف الـسـتــــار
ويتردد اسم « إخناتون » (ص 38):(فوارس يلفون حول أعناقهم تعويذة إخناتون)، والمعروف أن« إخناتون »(1369 - 1353ق.م)، عاشر فراعنة الأسرة (18) ، وثاني أبناء « أمنحتب 3 »، وهو أول من نادى بوحدانية الله ، يراه في قرص الشمس ولا يشرك به أحدًا ، وفكرة الوحدانية عند الفراعنة قديمة , ولكن ظروف الحياة والأحداث السياسية قد أخرت إعلانها قبل أيام « إخناتون » , الذي أعلن أن للناس كامل حريتهم في تنفيذ ما أرادته لهم حياتهم من مظاهر التطور. ويأتي ذكر (حصان طروادة)(ص 37): (إنه مسخ لحصان طروادة إذا بقرته انفرطت الديدان من جوفه لتخنقها الرمال) . ويسبق هذه العبارة عبارة أخرى تقول :(جالوت فارس زائف) . وحرب طروادة في الأساطير اليونانية : (حرب بين الأغريق والطرواديين ، وهي موضوع الإلياذة والأوديسا . وقد بدأ النزاع عندما قام « باريس » بخطف « هيلين » زوجة « مينلاوس », فحاصر الإغريق طروادة بقيادة « أجاممنون » لمدة 10 سنوات ، وكانت المدينة محكمة التحصين ، فنجح الإغريق في دخولها بخدعة ، إذ تظاهروا بالرحيل , وتركوا حصانـًا خشبيًا ، أخذه الطرواديون إلى المدينة ، ففتح المحاربون المختبئون داخل الحصان أبواب المدينة للجيش الإغريقي)، أما حرب طروادة في الواقع (1200 ق . م) تسببت عن الصراع على سيادة التجارة في الدردنيل . وطروادة : مدينة قديمة في الأناضول يعرف موقعها اليوم باسم (حصار ليك) وكانت مسرحًا لحرب طروادة . ويأتي ذكر « أحمد عرابي »(ص 37):(حتى عرابي خدعوه وجاءت السفن لتطعنه بالخيانة من فوقها .... ) ، و« أحمد عرابي » (1841م - 1911م) زعيم مصري من قرية (هرية رزنة) من قرى الزقازيق شرقية , تزعم ثورة الجيش المصري (1882م)؛ للقضاء على النفوذ الأجنبي في البلاد ، ثم قاد الجيش المصري ضد قوات بريطانيا التي اعتدت على مصر ، وبالرغم من نجاح الجيش في بعض المعارك إلا الخيانة تسربت إلى صفوفه ، ومن ثم كانت هزيمته ، ونفيه إلى سيلان ، وفي عام (1901م) عاد إلى مصر بعد 19 عامًا .
فـوهـــات الأصـابــــع
وفي قصة (فوهات الأصابع) (ص 51) إهداء إلى أطفال الحجارة يستهلم الكاتب قصة المجد العربي , ويضفرها بواقعنا , ويأتي ختام القصة مغايرًا للتاريخ , تقول الأم الفلسطينية : (مضطرة أن أنادي كما نادت امرأة من قبلي وقامت الدنيا ولم تقعد . سأصرخ فيهم قائلة : (وامعتصماه)) (ص 52) . والمعتصم هو : « أبو إسحاق محمد بن الرشيد بن المهدي بن المنصور » ، لقب بـ(المعتصم بالله) ، وكان يحاصره من ملوك الروم « توفيل بن ميخائيل » ، وكان ينتهز الفرص الملائمة لينتقم من المسلمين الذين دوخوه وألزموه أن يدفع الفدية قهرًا ، فأتي مسقط رأس « المعتصم » في (زبطرة) وقتل من فيها من الرجال ، وسبى النساء والذرية ، وأحرق المدينة ومضى إلى (ملطية) ؛ فأغار على أهلها , وعلى حصون المسلمين , وسبى من المسلمات فيما قيل أكثر من ألف امرأة ، ومثّل بمن صار في يده من المسلمين : وسمل أعينهم , وصلم آذانهم ، وجدع أنوفهم ، وبقر بطونهم ، وصاحت امرأة : " وامعتصماه "، وبلغ الخبر« المعتصم » بسامرا , فصاح في قصره بالنفير, وأرسل مقدمة كمدد لأهل (زبطرة) وعاد الناس إلى قراهم ، وتوجه « المعتصم »إلى مسقط رأس « توفيل » (عمورية) , وحاصرها بجيشه ، واقتحم المسلمون (عمورية) عنوة ، وانتقم « المعتصم » من الروم بما فعلوه في (زبطرة) و(ملطية) ، وبعد انتهاء الواقعة عاد« المعتصم » إلى (طرسوس), وكانت إناخته على (عمورية) في6 من رمضان سنة 223 هـ ، وقفل عنها بعد 55 يومًا , ومدحه« أبو تمام حبيب بن أوس » بقصيدته المشهورة التي مطلعها :
السيف أصدق إنباءً من الكتب في حده الحد بين الجد واللعب .
أما قول المرأة " وامعتصماه " فالواو والألف (وا) حرف نداء مختص بأسلوب الندبة . نحو : (وازيداه) ، (واظهراه) ، وأجاز علماء اللغة العربية استعماله في النداء الحقيقي . كما أن (وا) تكون اسمًا لأعجب مثل :
وا بـأبـي أنت وفوك الأشـنـب كـأنـمـا زر عـلـيـه الـزرنـــب .
و(الشنب) : جمال الثغر وصف الأسنان ، و(الزرنب) : نبات طيب الرائحة .
والربط التاريخيّ يعبر عن معاناة شعب طال شقاؤه وما زال ينتظر النجاة .
مـســـك الـخـتــــــام
والمجموعة القصصية (فـُرْسَان الظهيرة) فيها أقمار تاريخية تنير لنا الدروب ، وتكشف ما يصيب الناس من شقوة في التفريط في الحقوق والواجبات ، وفيها روح الأمل إذا أدبر النهار , وفي سردها صفاء ذهن, وذكاء قلب , وتواصل إبداعي يرفض الاجترار والتكرار , بين النص المنهي (تجاوزًا) والنص المتخلق . وصاحب المجموعة استطاع التخلص من سلطة النص السابق في سياق الوعي والذات المتلقية ، وإذا ما تأملنا عناوين المجموعة ، نستطيع اكتشاف تفاعل المبدع معها إذ تنضوي تحتها مفردات وتفاصيل ثرية . وأفكار المجموعة تشير إلى التقصير الذي يؤدي إلى كارثة تجعل الوطن جوادا ضاويًا هزيلا ًفي حلبة المنازلة ، كما تشير إلى المواطن السلبي المغتبط بعيشه الذي لا يحزن على فائت من العيش ، ولا تذهب نفسه حسرة وراء مطمح من المطامح الشريفة ، فهو يعيش على الكفاف وينتظر « المعتصم » يحمل له طوق النجاة المخبوء في مطاوي المستقبل ، وتبقى كلمة « ابن خلدون أبو زيد عبد الرحمن بن محمد » (1223 - 1406) ماثلة في الأذهان ، فقد ذكر في مقدمته : (أن التأليف سبعة أضراب : إما شيء لم يسبق إليه شيء فيخترعه ، أو شيء ناقص يتممه ، أو شيء مغلق يشرحه ، أو شيء طويل يختصره دون أن يخل بشيء من معانيه ، أو شيء متفرق يجمعه ، أو شيء مختلط يرتبه ، أو شيء أخطأ فيه مصنفه فيصلحه) . وقد افترش صاحب هذه (المجموعة القصصية) المدى ظلا ً، فضمن عمله ما جاد به فنه . ولقد سقت (قراءتي التاريخية) متنسمًا عبير الزمن الذي أعطى المتلقي ما يبهر قلبه , ويسحر نفسه , حتى فاض العبير فملأ الأرجاء .
(3) عـاصــم خـشـبـة ، و : (مـولود في الأول من تـوشـكـى)
في مجموعته القصصية :(مولود في الأول من توشكى) يكتب الأديب « عاصم خشبة »( ) بلغة راقية ، هي أساس بناء الفضاء القصصيّ عنده ، حيث يحمل المتلقي على جناحيها ، وهي ليست أداة توصيل فحسب ، بل هي عنصر بنائي أساسي ، يقدم الفكرة في إطار يهيئ لقبولها والتفاعل معها ، فالعمل الفني الناضج هو الذي لا تنفصل لغته عن مضمونه ، فيؤثر كل منهما في الآخر ، والفنان الحقيقي هو الذي يجعل من اللغة والمضمون جسمًا واحدًا ، لا نستطيع (الفصل) بين عنصريه إلا فرضًا . ومعنى (الفصل) هنا (فرضيته للدراسة) ، فكثيرٌ من النـُقاد يرون أن تجزئة النص إلى مقاطع أو وحدات متمايزة ،هو أقرب سبيل إلى تشويه النص وابتساره ، لكن هناك فرق بين التجزئة والتشويه ، فالتجزئة بغرض الدراسة ما هي إلا وسيلة مؤقتة لتشريح وحدات القص ، واستنطاقها في ضوء المنهاج المرسوم .
فوحدة اللغة ، ووحدة السرد ، ووحدة الموضوع ، ووحدة البطل (الشخصيات) ، ووحدة الحبكة ، كلها وحدات فنيّة ، بدراستها دراسة مستفيضة ودقيقة ، بمنحى عن باقي الأجزاء الأخرى ، لا تروم إحداث قطيعة بين وحدات المركب القصصي ، بل تفسح المجال أمام قراءة داخلية متأنية تستكمل ، وتستكشف تفاصيل الوحدة داخل العمل الفني المتكامل ، وعلاقات هذه التفاصيل بكل منها( ). والقاص في هذه المجموعة القصصية يسبح في أوردة الزمن ، ويتشبث بأهداب التفاؤل ، وخيوط الأمل البعيد ؛ ليعيد تشكيل الكون( )، والكلمة لديه هي الأداة الفعالة التي تعبر عن الحياة داخل العمل ، إذ تقدم لنا الكلمة تجربة القاص الزاخرة بالحب ، الغنية بالتفاصيل ، ذلك لأن الكلمة هي الجسر الذي يصل بين التجربة الفذة ، وعقول المتلقين وحسهم ووجدانهم ، تنطق بالقيم الجمالية المؤثرة الفاعلة الحية ، القادرة على تفجير وبعث شتى المشاعر والأحاسيس الكامنة في ذوات المُتلقين ، ولهذا السبب جمع القاص بين الفائدة القصصية في الدلالة على تطور الحدث ، وحركة الشخصية ، والقيمة الجمالية للعبارة القصصية( ).
ونرى القاص يرحل مع الحلم ؛ ليجمع الضوء الكاشف ، يصب الحزن في كأس ليشربه الضجيج ، ويتطلع في مرايا الغيب ، ويحكي مواويل الندى بماله من وعي بالحياة والمستقبل ، ويجتر أحلامًا وردية للزمن المؤرق ، ويحررنا من الوهم ، واليأس ، والانكسار ، ويوجه بوصلة الرحلة التي تشير إلى اتجاه الرحيل ، ويمضي الوقت مجنونـًا على طرق العشق السريعة في قصة الرحلة ( )، حيث فكر البطل بعد فسخ خطبته الحديث مع شبيهة لمحبوبته ، ويمضي الوقت ، وتأتي النهاية.. (لقد ركب القطار الخطأ وعليه أن ينتظر قطارًا آخر يقله إلى مدينته ، ولكن هذه المرة بدون دموع لكي يصل)(ص 7) ، وفي (الرحلة) يستخدم القاص تقنية الحوار مع النفس (المنولوج الداخلي) أو تيار الوعي :(انتابه شعور غريب بالرغبة في التحدُث إليها ، والتقرُب منها ، وكأنها ستنتشله من همومه ، استجمع شجاعته ، وهم بالتحدث إليها ، وعندما بادره جاره في المقعد المجاور بحديث عن مشاكل الزحام ، ومواعيد القطارات ، والأسعار ، و... وهو يحاول جاهدًا أن ينهي الحديث بشتى الطرق ... وعندما قرر أن يبدأ حديثه معها أخرجت كتاباً من حقيبتها وانهمكت في القراءة ، وقرر هو أن يُؤجل الحديث ...)(ص 6). واللغة هنا حية أحالت القصة إلى عالم مملوء بالصور والحركات ، والمشاهد ، والألوان ، والظلال التي تكسو الوهاد ؛ فتتحول إلى تلال من الخُضرة ، أو أودية من الخصب أنى التفت تراها مزرعة للدوالي ، وأزهار الياسمين ، وآنية للأقحوان الفريد ، ثم يَحمل القاص المُتلقي إلى غابةٍ ، ونهر من العطر ؛ فتنبهر العيون ، وتنشط باقي الحواس في قصة (جواد) ويتغنى القاص بالأمجاد ، ومكارم الشهداء ، وأحلام الحب المُجهضة ، والشهداء الذين دفعوا ثمنـًا باهظـًا لحرية الوطن ، ووفروا له أسباب القوة والمنعة ، وتضافرت جهودهم خلال سنوات النضال لمواجهة المستعمر الإسرائيلي ، وروح الحقد والكراهية الكامنة فيه ، فتضيق مساحة اليأس من التحرر ، وتصفو القرائح حيث تطفو تفاصيل المقاومة ، وتتحول القصة إلى وردة بيضاء تغوص في الدماء( ): (بأحاسيس مريرة ، وعلى الرغم من صغر سنه ، فقد شارك أبناء حيه في معارك الحجارة ، وتذكر أثناء سيره كيف سقط العديد منهم شهداء برصاص الغدر اليهودي؟)(ص 8)، والقاص هنا يجهر بشهادته ، ولا يخافت بها ، يعلن وقوفه ضد العدو بصراحة ، في زمن أضحى فيه العدو هو (الآخر)، والقومية العربية هي (الشرق أوسطيّة)، وقوى الشعب العامل هي النخبة ، وثقافة التحرر الوطني هي ثقافة السلام ، والتطبيع بديلاً للمقاومة ، والشراكة بدل الاعتماد على الذات ، في زمان كالح مالح غير صالح ، يشح فيه الحلم العربيّ ، وتزداد فيه ثقافة التغريب الرّث الكئيب .
ونحن هنا أمام تجربة جمالية غنية لا تعرف الانغلاق على الذات ، أو ما عُرف بالغموض ، فالقاص يطبق عينيه على الحقيقة ، ويوسد رأسه عليها بعد أن يستلهمها لتكشف النيران عن وجهها بعيدًا عن التعبيرات المحفوظة المُعلبة المُقحمة ، والكليشيهات الجاهزة . وفي قصة :(الرجل الذي مات مرتين) يُشجيك في الحزن فرط الأسى ، تنم عنه الكلمات :(وصل النعش إلى المقبرة الخاصة بأسرة الفقيد ، لتجد « سعدان » في انتظارها بجوار فتحة المقبرة التي فتحت فمها على مصراعيه في انتظار هذه الوجبة الطازجة ، ولسان حالها يتمنى أن يكون رجلاً صالحًا كي تتحول المقبرة إلى روضة من رياض الجنة)(ص 27). يستلك « سعدان » بطل القصة إلى عالمه دون أن تدري ، وينوب التصريح عن التلميح ، فتتجلى النفس بغشاوتها ، وعبُوسها ، وهمها ، وغيها ، ومراوغتها ، وشرها ، وعن عديد من أحوالها ، والقاص في كل ذلك ينظر إلى الجوهريّ في الأحداث ، ويُجرد الوقائع من الأردية والأغطية ، يقيم الصراع بين يدي القصة ، ويُعمق أطراف هذا الصراع في بوح وحزن شفيفين . وفي قصة (مولود في الأول من توشكى) تبتسم توشكى لروادها الأوائل ، تنفض همومهم وتخفف أحزانهم ، ويتطهر البطل الذي وُلد من جديد ، ووجد سحر العمل أسمى وأجمل من الخلود إلى الراحة التي يجرف تيارها العاتي غيره ، والقصة لوحة جميلة تنسجم فيها الأضواء والأنفال والظلال ، يرفدها أسلوب مخمليّ للقاص ، نجده قد امتزج بخصوبة نفس ، وترف خيال ، وفرحة صداحة مُسعدة مُتجددة ( ):(في أيام معدُودة تحول موقع العمل إلى خلية نحل ، فالعمل يدور على مدار الساعة تحت لهيب الشمس نهارًا ، ووسط برودة الجو ليلا ً، ودون توقف تحت أي ظرف من الظروف ، شعـر « محمد » أنه جاء إلى توشكى بتكليف من (النيل) كي يُعبد له الطريق ، ويشُق له المجرى الجديد في الوادي الجديد)(ص 12).
دلالات
وقصص « عاصم خشبة » تتميز بإيجاز شديد ، وأسلوب رقيق عميق رائع في الحبك والسبك ، وتعبير غير مباشر بأسلوب (المعادل الموضوعي)، ويتضح ذلك في قصة (موديل) فالمعنى لا يستمد من جزء من أجزائها ، بل من القصة بأكملها حيث تتآزر العناصر الوظيفية بعضها مع بعض للتعبير عن المشاعر والأحاسيس والانفعالات التي يريد القاص أن يوصلها برفق وهوادة للمتلقى ، وتتمثل في الصور ، والأوصاف والحوار ، والشخصيات ، والمواقف ، والأحداث ، والرؤى التي تعكس التيارات (الاجتماعية ، والسياسية) التي زخرت بها الحياة المصرية في النصف الأخير من القرن الماضي ، مما يعد ثراء لعالمه الفني ، ناهيك عن مجموعة كبيرة من الدلالات التي يستشفها المتلقي بإيحاء من النصوص التي تزخر بالحياة ، وتتفتح كالزهور اليانعة في حقل تحيط به الأشواك من كل جانب ، فالأحداث سلسلة من اللطمات المتتالية ، والكلمات تجرجر المدى الحزين الباكي ، وتمتد جذورها وتضرب في أغوار سحيقة من الأرض ، وترتفع فروعها إلي السماء ، تخرج من أسر الوهم وأثقاله وأحماله ، وتكتسب أبعادًا جديدة في الحياة وبين الناس ( ) .
( ... جلس الفنان والصحفي يتناولان طعامهما في المرسم ، وهما يتبادلان الحوار عن (موديل) اليوم - خلصت يا سيدي لوحتك . قال الصحفي : دي لوحة هايله ، لأن الموديل هايله ، ولما أنهيها هتفرج علينا . رد الفنان : طب العسل الهايل دا ماكانش يبقى رسم و .... دا الواحد شرقان - خلاص بكره نجيب حاجه رسم و .... وندلع نفسنا ، ولا تزعل نفسك يا عم ، إلا على فكره ، عرفت إن كلية الفنون الجملية هتلغي رسم الموديلات العريانه من على الطلبه . قال الفنان : مين المتخلف اللي عمل القرار ده ؟ .(رد الصحفي): ناس متخلفه ، ورجعيين في الكلية ما بيفهموش في الفن ...)(ص 16) ، والحوار هنا مباشر يلقي الضوء على الشخصية ، ويعريها داخليًا على مستوى القول القصصي التقريري والفني . والقاص هنا يراعي الفروق الفردية بين الشخصيات ، بحيث جعل كلاً من المتحاورين يختلف عن الآخر بمقياس دقيق . وفي قصة (المباراة) تظهر مدينة شربين (دقهلية) كمسرح مكاني للأحداث ، كما ظهرت من قبل في قصة (الرجل الذي مات مرتين) و(عم عبد الباقي)، مما يشي بعلاقة رهيفة بين القاص ورؤية حالمة تحاول أن تعيد ترتيب الواقع ، ولهذا يزداد العمل جمالا ًورونقـًا ، وجاذبية دون أن نسمه بالتقريرية ، فكلما تجاوز المكان دوره كمجرد خلفية ، وكلما كان له تأثير في الفكر أو الشعور ، أو الخيال ، أو الاتجاه ، أو الموقف كان عنصرًا فاعلاً في القصة ، وحينئذ تتحول الكلمات إلى خيل للاستنفار ، تنتهب اللذات ، وتتعجل المسرات في فرح طفوليّ مجنح .
أمـهــات المـحـمـــول
وفي قصة (أمهات المحمول) يتواصل المشوار الإبداعي فيتحكم القاص في سرعة النص ، ويمزج الشخصية التعبيرية والشخصية الكابوسية المنعزلة ؛ مما أنتج (اللابطل) في العمل ، نطالع البطل الضد المهمش الذي لا يتخذ دور البطولة في القصة إلا بوصفه بؤرة للأحداث الفردية المشوهة من الداخل والخارج ، تلك الشخصية التي تعيش في غيبوبة بعيدًا عن المجتمع وما يجري بداخله من أحداث ، و(البطلة) تبترد بلظى (المحمول)، ولهيب الخمول والبلادة والكسل ، فدنياها دنيا مأكل ومشرب ، وعبث وشهوة... (يعود « هاني » آخر اليوم ليجد (ماما) في النادي ، وأخته (بتعمل شوبنج)- أي تتسوق - مع صديقاتها بعد منتصف الليل ، يخرج « هاني » مرة أخرى إلى الشارع بحثـًا عن سهرة (صباحي) بدلا ًمن جلوسه في المنزل بمفرده ، ويأتيه اتصال على المحمول من مامي – أنت فين يا « هاني » وفين أختك ؟ . رد « هاني » بأنه يذاكر مع زملائه ، ولا يدري شيئـًا عن أخته . قالت الأم : خلاص لو شفتها بكره خليها تبقى تكلمني في النادي أو عند الكوافير ، لأني من يومين ما شفتهاش ، والظاهر المحمول بتاعها مقفول أو عطلان)(ص 24) .
وتتواصل الأحداث فالزوج رجل أعمال دائم التنقل والحركة والسفر ، ويرى أفراد الأسرة بالصدفة ، والأم تدير شئون الأسرة بالمحمول ، و« هاني » يتم القبض عليه في حفل جنس جماعي وعبادة للشيطان ، والفتاة تعود أمها لتجدها في أحضان شاب تعلن زواجها منه عرفيًا ، والنهاية كارثية ، والتجربة هنا هي الملمح الذي يبقى في الذاكرة الإنسانية حين تبهت بقية ملامح التجربة بفعل الزمن .
والقاص ويربط بين الصدق الخالص والمعايير الفنية القصصية ، ومنها معرفته بالنفس الإنسانية ، يرفده تصوير للموضوع استخدم فيه الأسلوب السينمائيّ ، والقصة جادة يكشف فيها القاص عن أفكاره ويحاول تجربتها واختبارها عن طريق الكتابة ، يجسد الشخصيات ، ويطور الصراع والحدث ولا ينسى سلسلة الأحداث الجانبية ، والحبكة الفنية ، والصياغة المناسبة ، والحافز الأخلاقي التربوي .
الـكـنـــز
وفي قصة (الكنز) نموذج للقصة ذات البعدين ، وهي تعتمد على التوازن بين خطين منفصلين من الأحداث ، يمثل أحدهما ما يشبه الرمز في مقابل الآخر ، ويظهر المكان بوصفه عنصرًا حيويًا دالا ًعلى الشخصية ، وتتجلى الأماكن من خلال رؤى أبطال القصة بصور مبتكرة نتعرف من خلالها على شخصية الأبطال ... (جلس « حمدان » على مقعد صغير أمام داره ، وأسند ظهره إلى الجدار ، وزفر زفرة ألم طويلة ، فها هو قد خرج إلى المعاش بعد أن عمل خفيرًا حكوميًا لحراسة الآثار لمدة تجاوزت الأربعين عامًا ، ومع ذلك فإنه لا يمتلك من حطام الدنيا إلا المعاش الضئيل ، والمنزل الذي يستند على جداره)(ص 36). والمكان يمتد إلى المواقع الأثرية التي عمل فيها الخفير في (منطقة الأهرامات) ، و(نزلة السمان) التي استقر بها بمنزل صغير ، متهالك ، يحفر بداخله ، مع رفيق له ؛ فينهار المنزل فوق الحفرة ، ويدفن « حمدان » مع رفيقه ... (وفي لحظات أعقب الطرقعة طرقعات أخرى مدوية ، صاحبها انهيار جدران المنزل فوق الحفرة ، وفي لحظات لحق بها السقف ، وتعالت الأتربة ، والغبار لتكون سحابة كبرى فوق المنزل المنهار) (ص 42). هكذا تتهادى الألفاظ في أداء رائع من خلال نسق فني جميل لا يعلن موت الرجلين صراحة بل يعلن فقدان الحلم الذي كان موصولا ًبالبطلين ، وكان موصولاً في نفس الوقت بالحرام ، وكل ذلك يوصل إلى الإحساس بالأسى لما كان ، ويدلنا على معرفة القاص بما يقوله ، والقصة مسلية جدًا ، وفيها حيوية ، والطاقة القصصية هنا لا تكمن في الشخصية أو في الحدث ، وإنما تكمن في قوة أداء القاص ، وفي اتباع ما تتيحه له اللغة من عطاء أفسح هو لها الطريق لتتحول على الورق من مفردات عادية إلى خَلقٍ جديدٍ ، في قالب لفظي ثري وجذاب وشائق ، له تأثيره العاطفيّ الذي عكس لنا بوضوح جوانب إنسانية كثيرة . وقد نجح القاص في رسم صورة مشحونة عاطفيًا في ذهن المتلقي ، ووضعها بطريقة مناسبة من حيث : طول المقاطع ، وقصرها ، ومن حيث : سهولة الألفاظ ، وخشونتها .
ابـتـكــــاره
نُرجع البصرَ إلى الوراء كـَرتين ؛ لنعيد القراءة في إسهامات القاص الفنية ، ونلتقي الشخصيات المشبعة بالعزلة ، والغربة ، والانعزالية في قصة (شحاتة)، نعيش مع العتبة النصية الأولى (العـنوان)، وتفسيره يومئ ويشي بالتسول ، وهذا ما يلخصه التعانق بين اسم البطل « شحاتة » ومهنة أبيه المتسول الشحاذ الذي أصيب في حادث ، حيث صدمته سيارة ، ونقل إلى المستشفى ، وعلم الابن بمهنة والده التي أخفاها ، وعلم بوجود مبلغ من المال جمعه الوالد من أيدي المحسنين ؛ فيصر الابن على إعادة هذه الأموال لأصحابها ، وتستولي الحكومة في النهاية على الأموال ، وبموت الشحاذ تجدد النزيف ... (منذ الفجر تقاطرت على ميدان العباسية القريب من بدروم شحاتة عشرات الأتوبيسات من القاهرة ، والأقاليم ، وآلاف سيارات الملاكي بما فيها الشبح حاملة مئات الآلاف من المواطنين الباحثين عن النقود والوهم ... وأعلنت الحكومة في بيان رسمي أنها أعطت والد « شحاتة » حسنة كبيرة في يوم ما ، وقد قررت الآن استعادة الحسنة ، والفوائد ، والكنبة التي احتفظ بالنقود بداخلها)(ص 56)، والأحداث هنا تتصاعد بسهولة ويسر ، مما يزيد التشويق والإثارة ، والخيال واسع لكنه استخدم بطريقة ملائمة تيسر للمتلقي الإحساس الواضح بكيفية ما يحدث بتعاطف وفهم ، فما حدث في نص القصة موجود في المجتمع بشكل أو بآخر ، والقاص هنا يستخدم الرمز بدلاً من المعنى المجرد ، كما يستخدم التلميح بدلاً من التصريح ، يسير إلى نهاية المطاف وهو يمزج المشاعر مزجًا مع السرد ، أو وهو يستخدم الحوار ، بحيث يكسر رتابة اللغة ، ويعمل على إثرائها ، يعجن السرد بماء الشعر ؛ ولهذا تدفقت اللغة بعفوية وانسيابية ، ناعمة ، حالمة ، موحية ، واستطاع القاص تجسيم المشاهد وتجسيدها ، وإبراز الدلالات التي تحيط بها من كل جانب ، كما أضفى القاص في هذه القصة عمقـًا من تصوره لخفايا النفوس ، والفعال الإنسانية المتضاربة ، ويذيب القاص شخصيته تمامًا أثناء الإبداع ؛ أملاً في تبلور شخصية العمل الأدبي حتى لا يُكرر نفسه
مـيـــت فــُــــل
وفي قصة (ميت فل) نتعرف الأحداث ، وتنمو الشخصيات معها في تشابكها وتلاحقها ، وتسمُو الصور الخيالية ، وترتقي المعاني والأفكار ، وتظهر عبقرية اللغة بمفرداتها الخصبة الموحية ، وجملها التي تملك قوة الخلق والابتكار ، تحمل شعلة الروح ، والتراكيب التي تشبه الجذوة المتضرمة التي تتوهج بالنار ، وهو ما يمكن أن نلخصه في مصطلح الانقرائية .( )(Readability) و(ميت فل) مكان في جهة ما من مصر المحروسة ، ويتعرض القاص في القصة لموضوع الانتخابات ...(وقريتنا الفاضلة (ميت فل) ليس فيها أي فل غير ناسها وبس ، ولكن القدر وضع في أيدي هذه القرية كنزًا ثمينـًا هو أصواتها الانتخابية)(ص 70) بحيث يحدث تصادم على طريق القرية بسيارة مسئول ، أنقذ الأهالي المصابين ، واستعاد المسئول الكبير صحته ، وزار القرية التي رحبت به ، وبحاشيته ، وعرف المسئول أن عضو مجلس الشعب نصّاب ، (ثم تساءل عن التقارير التي يتلقاها منه وتقول كلها :" كل شيء تمام ")، وتنتهي القصة باختفاء عضو الدائرة ، ورفد المسئول الكبير للقرية بكل ما تحتاج إليه : (وبدا الجميع يستمتعون بالكهرباء والمياه النقية ، وبدأت بشائر بناء المسجد تظهر على سطح الأرض في البلدة ، وفي غضون شهور تحولت (ميت فل) إلى (ميت فل وأربعتاشر))(ص 70).
وفي قصة (ناوي) تفوح الأسئلة في الحلوق ، ويتم التواصل بين الأزمان ، كما يتم التداخل بين الحاضر والماضي والمستقبل ، والبطل لا يسلم من اليأس والسأم ، والتوحد يتم بين المتلقى والعمل الأدبي بسهولة ورفق ، فالقاص متمكن من أدواته الفنية ، يولد سرده المشاعر والأحاسيس بحرفية في ذهن المتلقى ، ومن هنا يأتي ابتكاره( ). والحوار بصفة عامة المُباشر منه ، والكامن ، أو الداخلي يسهم إلى جانب وحدات القص الأخرى في خلق حيوية قصصية لا غِنـَى عنها .
الـعـم عـبـد الـبـاقــي
وتتعدد الأوصاف ، وتتعارض الأقوال ، وتتباعد وجوه الرأي في أعمال الدكتور « عاصم خشبة » ، وينتهي من رواية الحياة فصل ، ويبتديء فصل يجسد تضاريسه الفكرية ، ففي قصة :(عم عبد الباقي) يشترك الدكتور « عاصم خشبة » مع القاص « فرج مجاهد »( ) في النص كنوع من أنواع التجريب ، وكان من الأفضل توظيف التقنيات التجريبية في عنصريّ الزمان والمكان ، كأن يقوما باستخدام التحديد الزمني ، أو التداخل بين الأزمان في النص الواحد ،مع العزف على أوتار البيئة الزمانية ، بتحويل الماضي إلى حاضر أو مستقبل ، أو فصل من فصول السنة ، أو التحول إلى الزمان المركب بحيث تتعدد الأزمنة .
ويُمثل الزمن عنصرًا مفجرًا لطاقة الشخصيات ، أو يقوما بالتجريب في طرائق اللغة ، والسرد ، والصور ، والبناء الفني مثلاً .
فـ(التجريب) عملية إبداعية تتخذ من رفض المستقر والمألوف حافزًا لها ( ).
ولسنا هنا بصدد الحديث عن التجريب ، لكن من المفيد الإشارة إلى أن القصة التقليدية مازالت قائمة ومزدهرة .
وهناك من يعتقد أن كل أشكال التجريب الفنية مجرد نزوات عابرة عند كُتاب ليس عليهم إلا محاولة هدم الصرح العظيم المسمى (التقليدية).
لكن هناك من يكتب (اللارواية) ، وقد وجد بعضها الطريق لقمة المبيعات ، ليس فقط في فرنسا ، بل في :(إيطاليا ، وألمانيا ، وإنجلترا).
النـقـاد العـرب والـتـجــريــب
إن بعض النـُـقـاد العرب لا يُميزون بوضوح بين الأشكال التجريبية في الرواية ، فيخلطون بين (الرواية الجديدة) ( ) ، ورواية (تيار الشعـور والعـبث)، وبدا أن كل ما هو تجريبي ، هو تيار شعور ، لكن الرواية الجديدة ترفض الشخصية ، والحكاية ، والالتزام .
كما أن التفسيرات تكون غائبة ومفترضة في مواجهة حضور البطل ، و تتغير اللغة .
ولهذا يلزَم لتفهم وتناول (الرواية الجديدة) وجود ناقد جديد لا يأخذ بالقواعد النقدية الثابتة ، تكون له مفرداته اللغوية الخاصة التي تتناسب ولغة هذا اللون من الرواية التي فقدت سندها الأكبر وهو البطل ... والحدوتة ، ومن النقاد من يرى في هذا الجديد تقليعة لا تلبث أن تزول .
وفي الختام يمكننا القول بأن المجموعة القصصية للأديب « عاصم خشبة » رَوت حُرقة القلب ، وما نحن بمُنْصفين إن لم نـَحمد الخير لأهله ، ونغبط على الفضل ذويه .
ولقد أثارت المجموعة القصصية - التي بين أيدينا - العديد من الأسئلة الكبرى عن : الحياة ، والموت ، والزمن ، والخير ، والشر ، كما أعادت إلى دائرة النور ما ظل طويلا ًفي منطقة الظلال .
ولشد ما وددت لو طالت تلك القصص ؛ ليطول مُقامي مع القاص « عاصم خشبة »، ولقد أثلج صدري وأنا أنصت إلى نداء الوجود الذي يتردد عبر الموجودات التي ضمنها قصصه التي تحمل كلماتها وقدات الجمر ، وأسفار الحلم التي ترصد برق الآمال وهي تمضي بنا ، لا يحولُ بينها وبيننا عصف الأمنيات .
(4) عـُـمــر إبــراهــيــم دراز ، و : (بــائــع الــــورد)
القصة القصيرة : جنس أدبيّ يتميز بالاقتصاد في التعبير ، وتصوير الحدث أو اللحظة الزمنية العابرة ، بلغة وصفية درامية . وهذا الجنس الأدبيّ يكشف للقارئ عن وجود حدث ، أو شخصية ذات دلالة نفسية ، أو اجتماعية ، أو تاريخية ، أو سياسية ، تعبر عن موقف خاص ، أو رؤية خاصة للعالم( ).
وتُعد (القصة القصيرة) بمفهومها الفني الراقي من منجزات القرن التاسع عشر ، فهي قريبة النشأة حديثة الميلاد ، وقد مرت بأطوار متعددة منذ القرن الرابع عشر في (إيطاليا) حتى القرن التاسع عشر ، حيث تحددت ملامحها المعروفة اليوم . وقد تضافرت عوامل عديدة في إنضاج نوعها ، منها : الصحافة ، وتعدد المجلات ، وذلك لارتباط نشرها فيها ، ومنها التغير السريع الذي طرأ على الحياة عمومًا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث أصبحت أكثر مُلاءمة لمواكبة هذا التغير من حيث ملاحقتها له ، أو قصر المدة التي تستغرق في قراءتها .
كما ساعد على هذا النضج ظهور أدباء كبار في أوربا وأمريكا شغلوا أنفسهم بها ، واتخذوها أداة مهمة من أدوات التعبير ، التي يهتدي بها السائر ، ويسترشد الحائر ، ومنهم الفرنسيان : « إميل زولا »( ) (1840م - 1902م) , و« جي دي موباسان »( ) (1850م - 1893م) ، والإيطالي المبدع « ألبرتومورافيا » ( ) (1907م - 1990م) , والروسيان :« جـوجـول »( )(1809م - 1852م), و« تـــشـــيـــــــــكـوف »( )(1860م - 1904م), والأمريكي « إدجار آلان بو»( ), فقد رفد هؤلاء القصة القصيرة بالكثير من إنتاجهم ، وساعدوا على تطويرها شكلا ً ومضمونـًا ، ولا عجب بعد ذلك أن نسمع من يقول : (إن القصة القصيرة هي« موباسان » ، و« موباسان » هو القصة القصيرة)، وصاحب هذه المقولة هو « هولبروك جاكسن » في مقدمته لمختارات من قصص « موباسان »، وفي كتاب : الصوت المنفرد لـ« فرانك أوكونور » الذي ترجمه الدكتور « محمود الربيعي » يستخدم « تورجينيف »( ) تلك الإيماءة البديعة حين يقول : (لقد أتينا جميعًا من تحت معطف « جوجول »). إشارة منه إلى قصته الشهيرة (المعطف).
ويرى الدكتور« وليد محمود » أن القصة القصيرة تتميز عن الرواية وبقية أنواع السرد ، وتتحدد لها خصائصها وشروط البناء فيها . ويُقيم النقد الأدبيّ هيكله النظري لها على تلك النماذج العالية لتصبح القصة القصيرة مَعلمًا بارزًا من مَعالم الأدب في عصرنا الحاضر بما تعالجه من موضوعات ، وتواكبه من تطور ، والقاص العربيلا يغفل الاستفادة من تراثه الموغل في القدم ، وهذا ما فعله صاحب هذه المجموعة القصصية فقدم لنا تجربة خصبة غنية بالفكر والعطاء .
فالعمل القصصي يسعى لاحتواء التناقضات الحادة في الواقع والجدل المستمر مع الذات والآخر ، والقصة مرآة المجتمع ، ومن مهامها : تجسيد الإنسان في صراعاته الاجتماعية المختلفة ، وتتمحور مهمتها في توصيف ، ونقل ، وعرض الواقع بكل سماته ، مع استشراف الآفاق المستقبلية ، من خلال القوة المستنهضة للتغيير ، مع صنع القارئ الواعي بما يجعله قادرًا على تحديد الخلاص . والأدب الذي يتوقف عند الوصف والتجسيد دونما إضمار لروح المشاكسة والتحدي والتصدي لا يرتقى بمبدعه فوق وظيفة الـ(عرضحالجي) المجرد من أي بصمة ذاتية ، وتجعله ممن يصدق فيهم القول بالمبدعين غير الواعين بالإبداعات الأصيلة على حد تعبير الناقد « محمد مصطفى سليم » في حديثه عن الرواية كفن مراوغ . وإذا كان التصور اللغوي القديم يفصل بين المعطى اللغوي ، والمعطى الفكري ، فإن التصور اللساني المعاصر يوحد بينهما إلى درجة التداخل والتلازم ، إن لم نقل التماهي المطلق . ومن هنا نفهم لماذا انمحت في الدراسات النقدية الأدبية المعاصرة تلك الفواصل التقليدية بين (الشكل والمضمون)، فأصبح المعطى اللغوي كيانـًا بنيويًا تتداخل فيه الأجزاء وتتشابك ، ومما لاشك فيه أن لظاهرة اللغة علاقتها الوطيدة بظاهرة التفكير . وإذا كان الإنسان يتميز عن الكائن الحيواني بالتفكير ، فإنه يتميز أيضًا بفعالية اللغة ، بل لعل امتيازه ، واختصاصه بالتفكير مستحيل بدون اختصاصه باللغة ، لهذا كان للغة حضورها منذ أولى لحظات خلق الإنسان حين علم الله تعالى« آدم » الأسماء كلها ، والكلام هنا للدكتور « الطيب بوعزة » أستاذ الفلسفة بالمغرب . وهكذا نلاحظ أن التصور اللغوي الذي يفصل بين فعل (التعبير)، وفعل (التفكير) وصفه « ابن خلدون »( ) بـ(المتعارف)، أي من المتواضع عليه ، والمتفق على القول به . ومن هنا تشكل الوعي اللغويّ الذي يعتبر اللغة مجرد أداة ووسيلة يستخدمها التفكير في مختلف عملياته لنقل مقصوده ومعناه .
والنقد الذي يَدور في فلك هذه المجموعة ليس بحكم نهائي ، أو كلمة أخيرة في هذه المجموعة ، وهي تقبل المناقشة والحوار ، والكلمة الأخيرة في أي نص هي التي لم تقل بعد ، فالحكم على أي عمل إبداعي لا ينبغي أن يكون حكمًا متعلقـًا بالقيمة التي تتباين حسب زاوية النظر ، والرصد ، والتحليل ، والمقارنة ، وهي أمور تختلف بالضرورة من شخص لآخر ، ومن رؤية نقدية لأخرى ، ولا شك في أن ثمة وشائج أو علاقات بين الفنون الإبداعية منذ القدم حتى وقتنا الحاضر . وهنا يتحدد دور من أدوار الناقد في عمله لرصدها ، وفي ذلك يقول الناقد « على شلش » (1935 - 1993م):(إن فنون الإبداع تربطها قرابة المنبع والهدف سواء أكانت كلمة أم نغمًا ، أم خطًا ، أم حركة . وبسبب هذه القرابة الناتجة عن النشأة المشتركة ، يكون على الناقد أن يحافظ على أواصر القربى بين مختلف الفنون ، ويشجعها ، وينتفع بها في عمله لخير الجميع). كما يرى أن :(النقد فن من فنون الإبداع ، وأن الأدب والفن ليسا على طرفي نقيض مع النقد ، فالجميع يخدمون غاية واحدة وهي حاجة الإنسان إلى الزاد العقلي أو الروحي أو الوجداني) . ويرى كذلك أن (حالة الامتزاج الكائن اليوم بين الفنون المختلفة - في الغرب بصفة خاصة - يدعمها التقدم التقني الهائل في وسائل الاتصال الجماهيري ، ودون الوعي بهذا الوضع يخسر الناقد المعاصر كثيرًا). ويستطرد موضحًا اهتمامه بالعلوم الإنسانية ... (على امتداد السنين التالية لم يتغير شيء من هذا عندي ، بل على العكس قوى وتبلور ثم أضيف إليه - بحكم اغترابي في أوربا - اهتمام عميق بالعلوم الإنسانية ولاسيما السياسة والتاريخ...)، والنقد عنده :(ليس سلطة عليا بأي معنى من المعاني ، ولكنه سلطة تتساوى في جميع مظاهرها وعناصرها مع سلطة القصة أو الرواية أو الشعر أو المسرحية أو أي جنس أدبي آخر تتعرض له). والنقد هو النص الموازي ، ولا ينافس النص الأصلي للقاص «عمر إبراهيم دراز» ( ) ، فهو مَبنى عليه ، ومن هذا المنطلق ستكون القراءة لمجموعته القصصية (بائع الورد), ومن مضى خلف سرب الغيد ما نكصا .
رحـابـة الـدلالات
تتفاوت قصص المجموعة التي بين أيدينا في الطول والقصر ، وتتسم بغنى الإيحاءات ، ورحابة الدلالات ، ففي قصة (المهرب) تعرية للفعل الشائن ، والقيم المدانة من جانب القانون : كالتزوير والتهريب ، وتوجز القصة لنا علاقة تنفتح على تجارب حياتيه حية في المجتمع . وفي قصة (رسائل من بريدي الإلكتروني) تكتنز المفردات وتستلهم التراث ، ويستخدم القاص هذه العبارة :(خر على أعتابها قلبي صعقـًا)( ).
لقد أصبح النص شبكة هائلة من الاقتباسات التي ذاب فيها الوجود التقليدي للمؤلف ، الكائن الملهم الذي أعلن « رولان بارت »( ) موته واستبدل بحضوره القديم الحضور المحدث للقارئ في علاقته بالنص الذي يضع القارئ نفسه أثناء القراءة ضمن نسيج لا نهائي من النصوص المتناصة ( )، ويوازي ذلك طرح السؤال الاجتماعي من جديد على النص ، وفهمه بوصفه ممارسة اجتماعية متعينة في الزمان والمكان ، في موازاة طرح سؤال اللغة بوصفها موضوعًا يحتل مكانة متميزة لدى الكاتب ، وينقل مفهوم النص من عزلته التقليدية إلى أفق الخطاب المفتوح( )، وقد حفلت القصة بالحميميّ من المشاعر ، والنبيل من المواقف في عالم تزداد فيه هيمنة التشيؤ ، وتتسع عبره تقنيات الاتصال ، وإمبريالية السوق ، وقوة المال . وفي قصة (مسألة اعتقاد) يتفاعل القاص مع واقعه الاجتماعي ويأتي ختام القصة هكذا : (وأخذت انتظر القطار التالي ، وأنتظر ، وأنا معتقد بشدة أنني سأستقله في هدوء تام ، وبكل الثقة في اعتقادي أكملت الانتظار)، والقصة تذكرنا بالأسطورة اليونانية ( ) التي تحكي قصة (سيزيف والصخرة)( ) فقد غضبت عليه آلهة اليونان ، لتدليسه وجشعه بحسب ما يروي لنا « هوميروس » في الكتاب السادس من (الإلياذة)، والكتاب الحادي عشر من الأوديسة ، فجعلته الآلهة يمضي بقية عمره في دفع الصخرة إلى أعلى الجبل ، ويتركها تتدحرج إلى أسفل ؛ ليعود إلى دفعها .. حتى يموت ، وينتصب فيض الأسطورة المعرفيّ على تخوم القصة ، فتظهر نبالة القصد والذائقة ، وسعة إطلاع القاص ، وثقافته النزاعة إلى الاستنارة ، فهي لبابة المعتقد عنده ، وصميم المنحى . وفي قصة (الشبح الذي يجول) يشعر المتلقي بالمتعة أثناء القراءة ، والإمتاع مسألة ذوقية نسبية ، لأن ما يمتع شخصًا ربما لا يمتع آخر وهكذا ، ولكن الانطباع على أية حال حكم نقدي ومن الممكن تلمس أسبابه ، فالقاص هنا يتخطى الأنماط الجاهزة في التعبير ومستوياته الدلالية في النص ، والسرد يبتعد عن الخطابة والمباشرة الجهيرة التي تخرج النص من فضاء القص ، والإفلات من الخطابية ، والمباشرة يسهم في شد القارئ إلى القصة ، كما أن القاص ابتعد في هذه القصة عن التسجيل الواقعي للحوادث والشخصيات ( ) وهذا مما يحسب له . فالقصة القصيرة لها دور فاعل في الغوص في أعماق النفس الإنسانية بعيدًا عن الرصد السطحي الظاهري للوصول إلى مناطق ربما عجزت عنها بقية الفنون الأدبية ، فالذات الإنسانية (الروح ، والنفس ، والعقل) كائن حي عاقل لا مادي ، خالد لا يمُوت ، لذلك ما أن يَموت الجسد المادي ، ويصبح غير صالح لأن يجيز الذات الإنسانية ، فإنها تتركه ، وتعود إلى ربها من حيث أتت ، ويعود الجسد المادي إلى التراب من حيث أتى ، وفي ذلك الدليل على أن الحياة الدنيا ما هي إلا مرحلة في تاريخ الإنسان ، تنتهي به إلى حياة أخرى لا موت فيها ( ), والنص يتمخض عن فيض داخلي موصول للمضمون ، يَلوذ بالحلم فرارًا من الواقع القاسي ، وينم عن معرفة تتنفس صدقـًا وحنينـًا في المضمون ، والبناء ( )، والقدرة على التصوير( )، والتركيز الشديد ، والتكثيف ، وطرح الفضول ، والتقريرية (ويراد بها تدخل الكاتب أثناء السرد بعرض آرائه وأفكاره)، والقصة باختصار كتبت بتقنية عالية وعالجت موضوعًا أثيرًا إلى النفوس .
وفي قصة (وداع تحت المطر) تتعثر خطوات الحب في كل اتجاه ، ويحمل السرد ضلوع فتى يستجير من طعنات الحب بآهاته ، فساغ فكر القاص وردًا ، وحلا شرابًا ، وفي قصة (الفيلا الملعونة) نطالع لغة سردية توحي ولا تقول ، وفضاءات من التوهج الروحيّ ، والمعنى الرمزيّ ، حيث يصور القاص الإحساس كما يصور الفكر بدلاً من الإخبار بها ، فالفيلا الخربة طمست كثيرًا من وهج الاسم الكبير ، وما بين الحضور والغياب الطويل يقدم القاص لنا صورًا منهمرة ، فنعيش في عالم من (الحقيقة المتجاوزة) ، أو عالم متجاوز للحقيقة (Hyper reality) حيث تتوالد الصورة ذاتيًا ، منفصلة كليًا عن أية حقيقة افتراضية ، وهذا وضع يرتبط أساسًا بكل من وسائل الإعلام والترفيه ، حيث يتم تصنيع " النجوم " في كل مجال من ناحية ، ويجري تصنيع حقيقة صورية ، أو حقيقة من الصور ، هي في حد ذاتها وهم خالص ، ولكنها تطرح علينا ، ونتلقاها باعتبارها الحقيقة ، والقصة بشكل عام أنموذج للصورة البصرية في البداية ، ثم الصورة الذهنية المتخيلة في النهاية ، وبائع الجرائد التي تحمل الأخبار يصبح خبرًا ، والفقير يضل سعيه في حياته حين يفكر في اقتحام المناطق التي ترمز للغنى وهكذا دواليك ... وفي قصة (الصفحات المفقودة) تطل المفارقة برأسها من خلال السطور ، فتفهم على أنها تضاد بين المظهر والحقيقة ، أو خروج للدلالة من التباين بين الواقع والخيال ، استنادًا إلى انبثاقها من ذلك التعارض بين المباشرة والمجاز ، بما ينفع في تكون وعي ناتج عن التجنيح الخيالي الذي يضع المظهر في غير مخبره ، أو لا ينسق فيه الدافع السلوكي مع الموضع الإنساني ، والسرد يحمل غنى المفارقة ، وقد وضع النقاد خصائص متغيرة للمفارقة تستند إلى معايير ثلاثة ، وهي : الموقف نحو ضحية المفارقة من منتهى التجرد إلى أقصى التعاطف ، ومصير الضحية انتصارًا أو اندحارًا ، ومفهوم الحقيقة المثارة في أنها قيمة عنده ، أو هي معادية للقيم البشرية ( ). وفي (كلمات عن سلمى) ينجرف القاص إلى المقدمات والعتبات النصية الفاصلة ، والقوالب والتعريفات الوصفية المُؤطرة للنص ، وهي مزالق تحول بين المبدع وجسارة اللحظة الساخنة ، وتستدرج هذه المزالق إبداعه ونتربص به . وفي قصة (مخدع الشيطان) يستلهم القاص الحكاية الشعبية لرجل فكر في الخطيئة ثم تراجع ، ونكص على عقبيه ، وعاد إلى منزله فأخبرته زوجته بمحاولة اعتداء " السقاء " عليها فقال الزوج كلمته :(دقة بدقة ، ولو زدت لزاد السقا)، ومن هنا فالناقد الأدبي يواجه ثنائية أساسية ، هي ثنائية الواقع الموضوعيّ في مقابل الواقع الذاتيّ أو الأدبيّ ، أي الواقع كما يصوره الأديب ، فأي نص أدبيّ له حدوده المستقلة عن الواقع ، وهو ينتمي إلى عالم الأدب قدر إنتمائه لعالم الواقع ، كما أن رؤية الأديب لا تخضع لقوانين الواقع وحسب ، وإنما تخضع وبالدرجة الأولى لقوانين الأدب وتقاليده ، بل إن الأديب يضطر أحيانـًا إلى أن يحور الواقع الخارجي حتى يضمن للنص الأدبي الاتساق الفني الداخلي ، ولذا حين ندرس أي نص أدبي لابد وأن نفترض انفصاله عن الواقع ، وننظر إليه باعتباره مجموعة من العلاقات المتداخلة داخل حدوده الأدبية ( ). والمجمُوعَة التي بين أيدينا - بصفة عامة - يميل صاحبها غالبًا إلى الأسس الكلاسيكية التي كتب بها الرواد الكبار ، وقد يكسر الوحدات الثلاثة ، وهي :(البداية ، والوسط ، ولحظة التنوير أو النهاية)، كما يتجه إلى (الرمز) بدلا ًمن (التصريح ، والتعبير المباشر)، وربما اختار طريقـًا جديدًا في المستقبل يستخدم في إبداعه:(تداخل الأزمنة ، وتعدد مستويات الفهم والبناء داخل التجربة الواحدة ، واستعمال أسلوب التداعي والحوار الداخلي ، والعودة إلى الوراء ، وتراسل الحواس ، والتقمص الشعوري)( )...والمقام لا يقتضي الدراسة الواسعة والبحث المُحيط.