Myspace Rainbow Text - http://www.myrainbowtext.com

3 - الـروايــــــــة .


3 -  الـــروايــــــــة  .
مـقـدمـة في الـروايـــة .
« الـسـعـيــد نـجــم » ، و : (عـلـيـه الـعــــوض)
              
« عـطـيـة زهـــري » ، و : (بائعـة الجـعــاريــن)
« وحـيـد الـسـواح » ، و : (فـتـاة مـن مـوسـكـو)
1 -  مـقـدمـة فــي الـروايــة .
كــيــف ظـهـــرت الـــروايـــــــة ؟
يرى الناقد الكبير « محمود أمين العالم » ( ) (1922م - 2009م)   أن ثمة علاقات وطيدة بين الأسطورة والتاريخ ، وليست الأسطورة     إلا المرحلة الأولى لمعرفة التاريخ ، وليس التاريخ إلا التطور المعرفيّ الموضوعيّ للأسطورة ، ويستدل الكاتب على ذلك الارتباط بأصل الكلمة في اللغتين اللاتينية واليونانية ، كما هي في العربية - الأسطورة - كما يستدل على ذلك أيضًا بالتقارب الشديد بين الملاحم والسير والحكايات الشعبية لدى الشعوب المختلفة ، كـ(الإلياذة ، والأوديسة ، والزير سالم ، والسيرة الهلالية)... وسرعان ما يتوصل الكاتب إلى جهة ثانية . ومع التطور الطبيعي سرعان ما ينفصل التاريخ عن الأسطورة . والملحمة الشعبية بمثل ما ينفصل العلم عن الفلسفة ، وأصبح للتاريخ أصوله وقوانينه الموضوعية بمثل ما أصبح للرواية خصوصيتها ، كذلك سرعان ما أصبح للرواية بنيتها الأساسية ، والأدبية القائمة على الحكاية التي انفصلت عن الملحمة ، وقبلها الأسطورة ، ويمكننا تحديد ذلك بالآتي بحسب ما يرى الكاتب : (الفلسفة خرج منها  العلم - الأسطورة خرج منها التاريخ - الملحمة خرجت منها الرواية الحديثة) ، وكما كان لتطور المعرفة التاريخية الجديدة أثره على تكوين إبداع البنية الروائية الجديدة ، لذا استطاع الكاتب الناقد - « محمود أمين العالم » (1922م - 2009م) -       أن يحدد مفهومه للرواية الحديثة بوصفها تشكيلا ً أدبيًا سرديًا له خصوصيته ، النابعة من بنية المجتمع الرأسمالي ، لا بما يتسم هذا المجتمع من بنية اقتصادية ، ومجتمعية ، وقومية فحسب ، وإنما بما يتسم به كذلك من رؤية ثقافية جديدة ، أبرز مظاهرها نضج الوعي العقلي العلمي الموضوعي على حساب الفكر الأسطوري العيني اللاعقلاني . وبسبب الوعي الإبداعي الذي حققه الروائي المعاصر فلقد تجاوزت الرواية عن كونها اللون الأدبيّ المعبر عن الطبقة الوسطى ، ولم تعد أسيرة الطبقة الوسطى ، ومجتمعاتها البرجوازية ، وجمالياتها ، وأيديلوجياتها ... وتعددت رؤاها الاجتماعية ، وتنوعت الهموم والتطلعات ، فاقتحمت مساحة الفعل السياسي والاجتماعي للجماهير ، وهو ما أكسب الرواية زمنيتها ، وظهرت كأبرز الأجناس والأنواع الأدبية ، وأقدرها على التعبير عن زمننا المعاصر( ) .
مـفهــوم زمنيـة الـروايـــة
في رأيه يشير « محمود أمين العالم » (1922م - 2009م)          إلى وجود زمنية للرواية خاصة بها ، وهو ما يُعبر عن الطبيعة الزمنية للرواية ، وذلك خلافـًا لما عُرف بزمن الرواية . والرواية فن زمني يلتقي في هذا فن الموسيقى ، والموسيقى السيمفونية على الخصوص خلافـًا مع الفنون المكانية مثل الرسم والنحت .
وليس المقصود بـ(زمنية الرواية) هو ما يعرف بالزمن الخارجي الذي تصدر فيه الرواية أو تعبر عنه ، بل (المقصود بالزمنية)        هو زمن الرواية الباطني المُحَايث ، المتخيل الخاص ، ويصل الكاتب أكثر في تحديده للزمنية بأنها البنية التي تحدد إيقاع ومساحة حركتها ، والاتجاهات المختلفة أو المتداخلة لهذه الحركة ... ويقول :       (تتشكل الزمنية بملامح أحداثها وطبيعة شخصياتها ومنطق العلاقات والقيم داخلها . ونسيج سردها اللغوي ، ثم أخيرًا بدلالتها النابعة من تشابك وتضافر ووحدة هذه العناصر جميعًا ، ولهذا فللرواية زمنية مزدوجة هي أولا ً الزمنية المتخيلة الكامنة في بنيتها السردية الدالة الموحدة ، والثانية تتمثل في تجليها في لحظة زمنية حديثة واقعية محددة ...).
وذلك بخلاف الزمن الخاص بالقراءة الذي لا يهتم به الكاتب ، حيث أن القراءة تمتد بطول فترة خلود الفن ، وهي بالتأكيد تختلف      باختلاف العصور ، والفرد الذي يقوم بالقراءة بحكم رؤيته الخاصة ،     والأنماط الفكرية التي ينطلق منها .
 وربما يظن القارئ أن « محمود أمين العالم » (1922م - 2009م) في تحديده لتلك المفاهيم حول زمنية الرواية قد تجاوز رؤيته الاجتماعية في التحليل والنقد ، بوصفه واحدًا من نقاد الواقعية ،    الذين يَرون عدم فصل الإبداع الأدبيّ عن المجتمع                   الذي ينتجه .
لكن في الواقع إن ذلك المفهوم لم يتعارض مع رأيه السابق          الذي أورده باعتباره أن بنية الرواية لا تنشأ في فراغ ، وإنما هي    ثمرة للبنية الواقعية السائدة الاجتماعية ، والحياتية ، والثقافية          على حدٍ سواء .
وفي رأيه هي ثمرة بلغة التخييل ، لا بلغة الاستنساخ          والانعكاس المباشر ؛ فهي تعبير إبداعي صادر عن                   موقع وموقف ، وممارسة ، وخبرة حية في قلب البنية الواقعية ( ).
منحنى الروايـة العـربـيـــة
يورد الكاتب « محمود أمين العالم »(1922م - 2009م) فصلا ً أخذ الطابع التاريخي للرواية العربية المصرية على وجه العموم ، حيث ربطها بنشأة البرجوازيات العربية والمصرية ، التي تبلور وجودها وأبنيتها في بلاد الشام ومصر ، قبل البلدان العربية الأخرى ، خلال القرن الثامن عشر ، على خلاف ما شاع في مختلف الدراسات السابقة عن تاريخ نشأة البرجوازية المصرية في القرن التاسع عشر تأثرًا بآراء المستشرقين ، ويُوضح الكاتب أن تلك الطبقة بدأت بشائر نموها قبل الحملة الفرنسية وخلال القرن الثامن عشر ، وتجلى ذلك في صدامها مع الأتراك والسيطرة العثمانية ، واحتكاكها بالتدخلات الأجنبية الأوروبية ، وسُرعان ما تم احتواؤها داخل البنية الرأسمالية العالمية ... ويرصد الكاتب كل الآراء التي تواردت حول نشأة ظهور الرواية ، أو محاولة تقصى بذورها وأشكالها الجنينية ، ويسلسلها كالآتي رغم عدم اتفاقه مع الآراء التي تبنت ذلك التسلسل :
1- تخليص الإبريز ، لـ« الطهطاوي » ( )- البعض اعتبرها بداية للرواية رغم أنها رحلة .
2- علم الدين ، لـ«علي مبارك » ( ).
3- الساق على الساق ، لـ« أحمد فارس الشدياق » ( ).
4- حديث عيسى بن هشام ، لـ« المويلحي ». 
5- ليالي سطيح ، لـ« حافظ إبراهيم » .
وتلك هي المحاولات ، أو ما نسميه بذور الرواية في مصر ، وهو ما كان له ما يقابله في الشام ، حيث ظهر عدد من الأسماء في نهاية القرن التاسع عشر ، وبدايات القرن العشرين قدمت محاولات مماثلة حاولوا فيها تجاوز شكل المُقامة التقليدي ، ويحدد الكاتب تلك الأسماء كالآتي( ) :(سعيد البستاني , سليم البستاني( ) , لبيبة هاشم ( ) , زينب فواز( ) , جورجي زيدان - في روايته التاريخية- , فرح أنطون( )- في بداياته الفلسفية -). ثم تأتي المحاولات الأكثر نضجًا بعد ذلك على أيدي :(محمد طاهر لاشين في "عذراء دنشواي" , ومحمد حسين هيكل في رواية " زينب "). ثم تلاهم جيل ثورة (1919م) ، الذي قدم أعمالا ًأكثر نضجًا على أيدي :(توفيق الحكيم (1898م - 1987م)، والـمــازنـي (1889م - 1949م)، ومحمود تيمور (1894م - 1973م)، وطه حسين (1889م - 1973م) ، وعباس محمود العقاد (1889م - 1964م) ، ...).
ثم يأتي جيل الرواية الذي أسماه الكاتب بالجيل الأنضج ، الذي خلّص الرواية من محاولات البداءة والتجريب لإتقان ذلك الفن على أيدي جيل الحرب العالمية الثانية :(محمد عبد الحليم عبد الله ( )، ونجيب محفوظ (1911م - 2006م)، وعبد الرحمن الشرقاوي( )(1920م - 1987م) ، ... الخ) عندما نضجت الظروف السياسية والاجتماعية ، كما يقول :
"ثم تأتي مرحلة الحرب العالمية الثانية وما بعدها ، وتتخلق معها وبها أوضاع سياسية ، واقتصادية ، واجتماعية ، وثقافية جديدة . فيحتدم الصراع السياسي ، والوطني ، والاجتماعي ، والطبقي في مصر ، وينعكس هذا في الخطاب الروائي في اتجاهين أساسيين . الاتجاه الأول : هو اتجاه يغلب عليه النقد الأخلاقيّ والعاطفيّ والميلودراميّ أسلوبًا وأحداثـًا ، ودلالة ، ويتمثل في محمد عبد الحليم عبد الله ، ويوسف السباعي( ) ، وإحسان عبد القدوس( ) . والاتجاه الثاني : يغلب عليه النقد الاجتماعي ، والصراع التاريخي ، وتمثله أعمال "عادل كامل ، ويحيي حقي ( ) ، ونجيب محفوظ ..." .
ولعل الكاتب يكون بذلك قد رسم خريطة لكُتَّاب الرواية ، تتناسب بشكل مطلق مع التطورات الاجتماعية التي جرت على المجتمع بظروفه السياسية والاجتماعية ، وكان تطور الرواية موازيًا في مساره مع تطور البنيات الاجتماعية ، خاصة بنية الطبقة الوسطى( ) .
الـروايــة الجــديـــدة
الرواية الجديدة ( ): تجسيد لرؤية لا يقينية للعالم ، وهي تختلف عن سابقتها (الحديثة) في المبنى والمعنى ، وقد أطلقت عليها تسميات كثيرة ، مما يؤكد أنها لا تندرج في أفق محدد ؛ لأنها بطبيعتها البنائية ، وفلسفتها، وهدفها تتمرد بحزم ضد هذا التحديد ، أو التصنيف ، فهي تعبير فني عن حدة الأزمات المصيرية التي تواجه الإنسان . وفي ظل تفتت القيم ، واهتزاز الثوابت ، وتمزق المبادئ والمقولات ، وتشتت الذات الجماعية ، وحيرة الذات الفردية ، وغموض الزمن الماضي والآتي ، وتشظي المنطق والمألوف والمعتاد ؛ في ظل هذا كله تصبح جماليات الرواية (الحديثة) وأدواتها غير ناجعة في تفسير الواقع ، وتحليله وفهمه ، وعاجزة عن التعبير عنه ، وتصبح الحاجة ماسة إلى فعل إبداعي يعيد النظر في كل شيء . والرواية الجديدة : تسعى إلى تأسيس ذائقة جديدة ، أو وعي جمالي جديد . وتقوم الرواية الجديدة على : تحطيم مبدأ الإيهام بالواقع ، كما يلاحظ فيها الانحرافات السردية المتكررة والمتعمدة . فنرى انتقالا ًمن حدث إلى حدث ،    ومن مكان إلى آخر ، ومن شخصية إلى ثانية ، وكلها انحرافات متعمدة ، تؤدي إلى كسر التسلسل الزمني ، بل يفقد الزمن أهم خصائصه وهو التتابع ، فتتداخل الأزمنة ، وأحيانـًا تختفي ،        وكذا المكان ، وحتى موضوع الرواية لا يتصف بالوحدة أو التناغم ، كما تكون الشخصيات مجرد أطياف ، وأسماء ، بل أحيانـًا تكون مجرد حروف ، أو رموز ، أو ضمائر ، أو أصوات .
لـغــتـهـــا
ولغة الرواية الجديدة ليست واحدة ، فهناك مستويات متعددة للغة ، وأحيانـًا نلحظ تمردًا على اللغة المألوفة ، وتراكيبها وقواعدها .     كما تقوم الرواية الجديدة على رفض مبدأ العلية أو السببية في بناء الأحداث ؛ لأنها تتمرد على جماليات الوحدة ، والتماسك ، والنمو العضوي ، وتحل محلها جماليات التفكك والتشظى . ومن أسباب ظهور الرواية الجديدة : وجود المؤثرات الأجنبية ، والانفتاح على التراث القصصي القديم ، وبعض المنعطفات السياسية الحادة التي مر بها الوطن العربي بدءًا من هزيمة (1967م) وما تلاها من أحداث ، مما أدى إلى اهتزاز الثوابت الوطنية والتاريخية ، وذلك بعد تنكيس وانكفاء تجربة الكفاح المسلح ، وبروز عملية التسوية بدلا ً منها ، فهي عوامل دفعت إلى التمرد على التقاليد الجمالية للرواية الراسخة ، وأسهمت في ولادة الرواية الجديدة ورؤيتها اللايقينية للعَالَم .   والرواية الجديدة لا تشكل مدرسة أدبية ؛ لأنها تقف بحزم ضد القوانين والقواعد ؛ لاختلاف نزعاتها ، وتعدد ألوانها ؛ لأن هويتها - إن كان لها هوية - تكمُن في التمرد على ذاتها . وتتعدد الرواية الجديدة بحسب أنماط بنية السرد ، واللغة ، والأحداث ، فنرى منها ما يستلهم الأنواع السردية القديمة والحديثة معًا بتوليف بنية سردية هجينية ، وهناك بنية سردية غنائية (السرد الغنائي) وهي تتعلق بالتصميم الذي يتسم بالسكون ، ويقوم السرد فيه على (التجاور، والتداخل) ، بدلا ًمن (التسلسل ، والترابط ، والتراكم ، ودينامية الزمن). وهناك بنية تقوم برسم دوائر سردية ، تجسد من خلالها علاقة جديدة بين مفهوم الكتابة ، ومفهوم القراءة في تقاطعها مع حركة الواقع ، أو بنية سردية فسيفسائية لتأكيد التعدد والتنوع ، أو بنية سردية تلجأ إلى النمو الاستعاري الشعري وتتخذه بديلا ًعن الحركة الروائية المألوفة بعد ذوبان الفعل الإنساني ، أو بنية سردية تنهل من جماليات التفكك ،    أو بنية سردية تروى سيرة الأشياء ، بدلا ًمن سيرة البشر( ) .          أو سيرة البشر من خلالها سيرة أشيائهم ، أو بنية سردية تنمو لا من خلال النمو العضوي ، بل من خلال التناسل اللاعضوي  أو بنية سردية تتمرد على الحدود والقيود ، وتثير إشكالية التجنيس ، أو بنية سردية تشيد من خلال تراسل الأجناس : الأدبية ، والفنية ، وغير الأدبية والفنية ، أو بنية سردية تنهل من جماليات الرعب كرِواية (الشمعة والدهاليز) للروائيّ الجزائريّ « الطاهر وطار » ، أو مفتتة في سبيل التمرد حتى على سلطة المعنى . وهذه التجارب الروائية الجديدة تتعدد في مبانيها ، وتتنوع في معانيها ، ودلالاتها الفنية ، وتشمل الوطن العربي ، وهذا النوع من الروايات الجديدة يقوم على الرفض العنيف للجماليات الروائية الراسية ، والتمرد على الوعي الجمالي المألوف ، وإثارة إشارات الاستفهام حول المفاهيم الأدبية ، والأنظمة الذوقية والجمالية المتداولة ، وبذر الشك في منظومة القيم السائدة ( ) ، والسعي إلى تفتيت الزمن وكسره أو نفيه ، مع الاحتجاج الحاد على كل المعاني المتعددة للسلطة بما فيها سلطة المعنى أحيانـًا .
حـلـقـــات ثــــــلاث
قسم الدكتور « شكري عزيز الماضي » الرواية العربية حسب مسارها إلى حلقات ثلاث ، وهي :
الرواية التقليدية ، والحديثة ، والجديدة .
الرواية التقليدية : تحمل مواصفات معينة في بنائها ، وأسلوبها ، وهدفها ، وهي تستند إلى وظيفتها المتمثلة في التعليم والوعظ والإرشاد ( )
الرواية الحديثة : ظهرت بعد أن فقدت (التقليدية) هيمنتها ، وبعد أن أدت دورًا إيجابيًا لا ينكر على الصعيدين الأدبيّ والاجتماعيّ . والرواية الحديثة شكل تعبيري جَسد حساسية جديدة ، أو ذوقـًا فنيًا جديدًا ، وجاءت تلبية للحاجات الجمالية والاجتماعية المستجدة من دون إغفال لأثر التراث من ناحية ، والمؤثرات الأجنبية من ناحية أخرى ، وبـ(الرواية الحديثة) انتقل الفن القصصي من مرحلة البساطة والتقليد ، إلى مرحلة النضج الفني ، حيث جسدت رؤى فنية جديدة ، وكشفت عن علاقات خفية ، ومن خلال هذا الكشف الجديد تولدت المتعة والتشويق والجاذبية ، وقد دل ظهورها على مُضيّ المجتمع قدمًا إلى مزيد من العصرية .
و(الرواية الحديثة) تعكس إحساسًا عميقـًا بالقدرة على فهم الظواهر والربط فيما بينهما وتفسيرها ، كما اهتمت بـ : الثابت ، والباطن ، والجوهري( )، وأهم ما يميز بناء هذه الرواية : ذلك التصميم الهندسي ، والاعتماد على البداية ، والذروة ، والنهاية ، مع الترابط بين الأحداث ، والتفاعل بين الحدث ، والشخصية ، مما يُؤدي إلى نـُمو الأحداث وفق مبادئ العلية والسببية ، كما يُؤدي إلى تطور الشخصية وتناميها ، حيث يُؤدي إلى التوازن في العلاقة بين الحدث   والشخصية ، وبين الشخصية ، والزمان والمكان فيحدث : (التماسك ، والترابط الدرامي) مع التدرج الفني .
وتهدف الرواية الحديثة إلى :
التأثير في القراء ، عن طريق تقديم الحقائق الفنية بصورة مقنعة ، لأنها تهدف إلى تجسيد مبدأ مهم من جماليات التلقي يتمثل في    (الإيهام بالواقعية)
 ويقصد به الإيهام بواقعية عالمها الفني ، ومشابهته للعالم المعيش ، مما يفرض على الرواية الاهتمام بالتفاصيل والجزئيات ،  أو تصوير نثريات الحياة التي تبدو دالة داخل الإطار    الفنيّ للرواية ( ).
وقد عرض الكاتب من خلال الرواية الجديدة لأحد عشر نوعًا  من أنواع بني السرد الروائي (وهي التي عرضناها آنفـًا) ،  كما عرض المؤلف رواية أو روايتين لكل نوع كإجراء تطبيقي على نظريته النقدية ( ) .
الـروايـة الـتـاريـخـيـــة
الروايات التاريخية منذ نشأتها المشهورة على يد « جورجي زيدان » ( )، وحتى أحدث النماذج التي صدرت تندرج تحت ثلاثة أقسام :
1- رواية التعليم : وهي التي لا تتوافر فيها الأسس والمفاهيم الفنية لبناء الرواية ، وهدفها تعليميّ .
2- رواية النضج : وهي التي نبتت على يد جيل البناة للرواية العربية الحديثة ، وهو جيل استوعب المقاييس الكلاسيكية التي عرفها الأدب الغربي الحديث ؛ فأنشأ على هداها رواية تاريخية ناضجة
3- رواية استدعاء التاريخ : وهي التي تستفيد من التاريخ كإطار يتحرك من داخله الروائي مستعينـًا بالخيال الروائي الفضفاض ؛ ليعالج قضايا معاصرة وملحة ، أغلبها يرتبط بالغايات الحضارية والسياسية ، دون التزام صارم بوقائع التاريخ ، وقد يكتفي كاتب الرواية بخلق جو تاريخي يُشعر القارئ بأن موضوع الرواية يجري في مرحلة تاريخية ما ، دون أن يكون للموضوع أي أساس من الحقيقة . إن الكاتب يتخيل أن شخوصه وأبطاله يعيشون في عمق التاريخ ، دون أن يكون لهم وجود تاريخي حقيقي ، وقد يستدعي الروائي شخصية تاريخية ، ويبعثها في الواقع ، ويُحركها ، ويُواجهها بالناس والأحداث ؛ ليفسر موقفه من قضية ما ، أو يشرح كيفية معالجتها ، والتغلب عليها ، والتخلص منها ، أو بلورتها وتطويرها وإثرائها . وقد يأخذ الروائي من شخصية مشهورة أو مغمورة ، خيطـًا روائيًا واضحًا في حياتها ، وينسج من حولها بناءًا روائيًا ينتمي إلى الواقع والعصر ، وتصبح الشخصية مجرد قناع يتكلم الروائي        من خلاله عن قضايا عصره وأمته ، وقد يكون الحدث التاريخي هو محور الرواية ، ولكن الروائيّ يصنع منه معادلاً لحدث ، مُماثل في زمانه ، ويتولى رسم الشخُوص ، والصياغة بروح معاصرة ، وهو ما يعطيه فرصة التشكيل الروائيّ وفقـًا لموضوعه وتصوراته ، دون أن تحده حدود التاريخ ، أو تُغله قُيود المُعاصرة .
والكاتب لرواية الاستدعاء يتجاوز(رواية التعليم) و(رواية النضج)؛ لأنه يَفر من صرامة الأحداث والشخوص واللغة التي يحتفظ بها التاريخ ، وتشكل وثيقة دقيقة لما جرى وكان .. كما أن كاتب (رواية الاستدعاء) يجد نفسه في ساحة واسعة فنيًا ، يُعالج فيها موضوعه بالطريقة التي يريد ، فضلا ًعن تطويع الحدث التاريخي أو الشخصية التاريخية ، تطويعًا موضوعيًا ، وبنائيًا ، بما يُحقق  غايته من الرواية ، وهدفه من كتابتها ( ).
ومن نافلة القول أن أول من قدم رواية الاستدعاء التاريخي هو « محمود تيمور » في روايته (كليوباتره في خان الخليلي) عام (1944م).
و عـلـى الـصـفـحـات الـقـادمــة نــُـقــدم ثـلاثـة نـمـاذج تـُـمـثــل   ( روايـة الاسـتـدعـاء الـتـاريـخــيّ ) ، لـنـتـعــرف مـعـطـيـاتـهـا ، ومـلامـحـهـا الأدبـيـة والـفـنـيـــة .
 (1)    الـسـعـيــد نــجــم ، و : (عـلـيــه الــعــوض)
يقول الروائي « جارثيا ماركيز » ( ): (أكتب جيدًا ، وبعد ذلك ليصنف ما كتبته تحت بند الكتابات الحداثية ، أو الكلاسيكية ،فلا يَهُم ، المهم أني قمت بواجبي ، وكتبت بشكل جيد) ،  ويبدو أن الروائي « السعيد أحمد نجم »( ) سار على خطى ماركيز في روايته (عليه العوض)( ) الصادرة عن دار الإسلام للطباعة والنشر بالمنصورة ، ضمن سلسلة أدب الجماهير، التي يشرف عليها الأديب الكبير« فؤاد حجازي » ، والرواية تقع في (123 صفحة)   من القطع الوسط ، ط 2006م . وقد صدر للمؤلف أكثر من عمل إبداعي ، ففي المجال الروائي له :(إعدام قطار - بخور الذهب - صالون في برلين - إيطاليا أو الغرق - دوامات - زقاق عصفور)، وله في الإبداع القصصي :(ضحكات مُوجعة)، وله تحت الطبع : (المجموعة القصصية : غزو البعوض).
والكاتب يتناول في أعماله الإبداعية المشاكل الحياتية لأبناء المجتمع المصري إيمانًا منه بأن الأديب ثمرة من ثمار الثقافة السائدة ، وأثر من آثارها ، ونحن لا نهمل قيمة العناصر الجغرافية والنفسية ، والانفعالية التي تمثلها شخصية الأديب المُبدع ( ) . ورواية (عليه العوض) نفثة من روح المؤلف شاع فيها سرِه ، وسطع في فورتها نجمه ، فمن خلال أسلوب السرد في الرواية ، ومن خلال الشعور المتدفق بالأحداث ينتقل بنا المؤلف من باعث للشعور إلى باعث للفكر ، ومن حيلة في إثارة النفوس إلى حيلة أخرى ، ومن رقة الذكرى إلى هول الكارثة ، يكشف لنا عن مشاعر كانت مخبوءة في ثنايا الماضي ، ومطاوي الحاضر .
وتطل علينا شخصيات الرواية فلا ننكر وجودها أو ننفي حقيقتها ، فهي تحمل طبعنا وفطرتنا ، وقليل من الروايات يجري هذا المجرى ، ويسيل هذا السيل ، فنحن أمام شخصيات حقيقية ، حلل المؤلف نفسيتها دون مغالاة في التقدير ، أو شطط في الوصف .
والشخصية ليست سوى التجسيد الحيّ للحدث ، في حين أن الحدث ليس سوى الشخصية تتحرك وتحيا ( ) - على حد تعبير الروائي الأمريكي « هنري جيمس » ( )- ومن هنا كانت الرواية واضحة المعالم ، مَرسُومة الحدود ، تحرك جسمها روح ، وتجمع أجزاءها وحدة تتنزه بمراميها عن كل عبث . ولقد اختار المؤلف اللفظ الجميل القوي للمعنى فبعث في الرواية نبض الحياة ، وهذا هو الفن الروائي الذي يعيش ما عاش الناس ، ويعجب ما سلمت الفطرة ، والمؤلف لا يتوقف عند ألفاظ أو عبارات منمقة فخمة ، كما أنه لا يغرب في ألفاظه ومن هنا كان أثره عميقـًا بالنفس .
الـعـنـــوان والـنـص
الرواية موضوعها : الفلاح المصري ، والعلاقات بين الناس في القرية المصرية ، وصلتهم بالسلطة ، وأحداث التاريخ قبل وبعد ثورة 23 يوليو 1952م ، والمؤلف في كل ذلك يطبع أسلوبه بالجد ، بيد أنه يجنح أحيانـًا إلى السخرية اللاذِعة ؛ ليأخذ المُتلقي بسحر عرضه ، وروعة بيانه وفنه . وعنوان الرواية (عليه العوض) يُناسب النص ، ففي لغتنا الجميلة : عاضه بكذا ، وعنه ، ومنه يعيضه عوضًا : أعطاه إياه بدل ما ذهب منه ، فهو عائض . ويقال : عاوض فلانـًا بعوض في البيع ، والأخذ والإعطاء . ويقال : عوضه من هبته خيرًا . واعتاض منه : أخذ العوض . والعوض : البدل والخلف . والجمع : أعواض . وفي (ص 43) من الرواية يرد عنوان الرواية :((أنا قلت القيامة قامت) و(عليه العوض))، وبطل الرواية الرئيس اسمه « عوض » ، وشخصيته تطغى على شخصيات الرواية ، ذلك البطل القابع في    عقر حقله الصغير ، وفي كسر بيته الطيني ، نرى صدعًا مُتنائيًا وبونـًا شاسعًا بينه وبين أهل بلدته فهو : (يسلق بلسانه ضاربًا       أو مضروبًا ، طارحًا أرضًا ، أو مطروحًا ، يلقى بنفسه في مشاجرات لا داعي لها ، ولا يمتلك أدوات النصر فيها)(ص 13).
لقد عكف المُؤلف على دراسة العقلية الريفية ، وقصر جهده على تفهم الروح التي تنطوي عليها ضلوع الفلاح المصري ، الذي هو لغز الألغاز ، وسر الأسرار، وراح يكشف عن المضض الكامن في صدره ، يَنكأ الجرح بعد أن يضمده ، ويضرب القلب بعد أن يربت عليه ، ويجذب الأعصاب بعد أن تسكن ، فيتحول السرد إلى قطعة موسيقية توقع على مختلف الأوتار ، والآلات ، والأصوات ، ويطول بنا الوقت لو حاولنا إحصاء الأصوات التي تبرز الفكرة التي يصر عليها الكاتب مما يجعلها تعمل على تشييد مقولات دلالية ، يفضي تراكمها إلى تشييد دلالة خطاب الرواية في تولدها اعتمادًا على هذه الأصوات . ولا ينكر عاقل أن معرفة الأصوات تعمل على إحياء اللغة      وانتظام السرد ، وتساعد على تحقيق توثيق علاقة الأديب بلغته ، وتعكس بوضوح مدى التحام الفكر باللغة ، فالمعاني الخاصة بالكلمات كانت ماثلة في أذهان الذين وضعوا ، وانتقوا هذه الألفاظ   بهدف التعبير عن أهم الصفات التي لفتت انتباههم بشأن المسميات التي أرادوا أن يدل اللفظ عليها .
وتصور الرواية ما نزل بالفلاح المصري من نوائب الدهر وبلايا الأيام ، وما حاق به من مظالم ، حين تغير طائرات العدو على (دلتا النهر العظيم)(ص 5) ،(تحولت طائراتنا المقاتلة على أرض مطارها القريب من الساقية إلى دخان في الهواء) (ص 6)، و(يظهر صوت « عوض » منكسرًا حزينًا ، يضرب كفـًا بكف ويقول : لا حول ولا قوة إلا بالله .. المطار راح في ثانية واحدة ، في أبو بلاش) (ص 9).
و(ظهر الزعيم ليلقي خطاب التنحي كأسد جريح ... بكينا جميعًا حول المذياع ، واشتد النحيب. شد « عوض » صوته من موجات البكاء ويصرخ :(ما تسبناش يا ريس ... هنحارب ، وهنهزم ولاد الكلب دول)(ص 11).
 ويصور المؤلف لوعة الأرض التي أقفرت من ذويها ، وثكلت ساكنيها ، فالأمجاد التي أعلنتها الثورة من قبل أصبحت خبرًا يروى ، وكتابًا يقرأ ويطوى ، يفيض بعبر الدهر ، وينطق بغوائل الزمن ، وفجاءات القدر كل يوم .
ويستخف « عوض » باليهود عند الروع ، وقد أشجاه ما أشجاه : (طيار ابن  كلب ، الله لا يكسبه ، ولا يشوف مكسب طول عمره) (ص 43). (إحنا كنا نايمين ، هايصين هلس ورقص ، ولما خدنا العلقة المتينة ، جايين يتكلموا في الإذاعة بعد خراب مالطة ...) (ص 44) .
 ويعلن « عوض »:(الظباط الكبار ولا همه هنا ، كل واحد شايف له رقاصة ، أو حتة ممثلة ما تساويش صاغ ، وهايصين ، وسايبين ولادنا يموتوا) (بنفس الصفحة).
هكذا تزدحم في الخاطر الأسئلة ، والأخيلة ، والذكريات ، والاتهامات وما توحي به الموحيات الدفينة في النفوس والأرواح يهتف « عوض » (ص 42):(يهود إيه ولاد الكلب دول ؟ ، دول شوية لمامه ، كفره ، ما يعرفوش ربنا) .
الـهـــــرُوب
يهرب البطل « عوض » من همومه ؛ فيلوذ بالجوزة مع رفاقه في سهرة ببيته حتى أصبح مكان السهرة مُتحفـًا للزائر ، ومطافـًا للمتفرج ، ومن يَحُم حوله يوشك أن يقع في شراكه :(موقد لقوالح الذرة يتوهج اشتعالاً أمام « عوض » ، يُعالج النيران ، بجانبه الجوزة بشكلها الكئيب ... أكثر من خمسة أشخاص في شوق لدوران الجوزة التي لم تدر بعد) (ص 33) .
وترد الأمثال الشعبية وأقوال العامة فينسقها المؤلف في معارضها أجمل تنسيق ، ويُنمقها أجمل تنميق ، ومن ذلك : (حُط في بطنك بطيخه صيفي) (ص 10) يُضرب في الاطمئنان ، و(هيه الميه بتطلع في العالي)(ص 14)، و(هيه العين تعلا على الحاجب)      (ص 18)،(طبلة تلمكم ، وعصايه تجريكم)(ص 21)، و(الخير على قدوم الواردين) (ص 33) ، و(أنا بعرف الديب مخبي ابنه فين)   وهو قريب من المثل الموجود في اللغة المصرية القديمة : (يعرف القرد مخبي ابنه فين) ، أصل يخبي : (حاب) بمعنى : يخفي ، وقد انتقلت في القبطية إلى : هاب ، وتحولت الهاء إلى خاء مع تطور اللغة فأصبحت (خبا) ، ومن التعبيرات الشعبية :(تروح في أبو نكله ، فاكرني خيخه) (ص 45)، و(النفخ في قربه مقطوعه)(ص 46)، و(ادي العيش لخبازه ولو ياخد نصه)(ص 93)، و(ضربوا الأعور على عينه قال خسرانه خسرانه)(ص 97)، و(جايب الديب من ديله)(ص 106) ، و(زي القطط بسبع ترواح)، وما أريد أن استطرد في ذكر الأمثال ، فإن فيما أوردت منها غنى عن ذكر غيرها ، والخلاصة هي توظيف المثل ، والتعبيرات الشعبية التي نطقت بها العامة على غير سنن الكلام العربي ، فألبس المؤلف لكل حالة لبوسها ، واتخذ لها ما يوائمها ويوافقها . وقد يأتي المثل العربي مصحفـًا ، ففي (ص 96):(ما حدش عارف فيها هَي من وَي)، وفي الفصحى :     (هو هَي بن بَي): هو لا يعرف من هو ولا من أبوه (كناية عمن لا يعرف ، ولا يعرف أبوه ، أو كان (هَيّ) من ولد آدم ، وانقطع نسله . ويقال :(هيّان بن بيّان).
توجهات الأبطال القيميّة
في رواية (عليه العوض) تظهر براعة المؤلف وتتجلى مقدرته على تفهم العواطف البشرية لأبطال العمل ، وتصويره مختلف المواقف النفسية ، ومحددات اكتساب نسق القيم البيئية والاجتماعية ، حيث يمكن تفسير أوجه التشابه والاختلاف بين أبطال العمل في ضوء اختلافات المؤثرات البيئية والاجتماعية ، كما بَرَعَ المُؤلف في رسم المحددات السيكولوجية كسمات الشخصية ودورها في تحديد التوجهات القيميّة للأبطال ، ولم يُقصر في وصف المحددات البيولوجية التي تشتمل على الملامح والصفات الجسمية ، والتغيرات في هذه الملامح ، وما يصاحبها من تغيرات في القيم : (صورة من « درويش » ، صورة من « عوض » (شوقي) الواقف أمامي ، العينان صغيرتان كعيني فأر ، والأنف الحاد الصغير في وجه أصفر نحيل ... هيكل عظمي لطفل يحتاج أن يكتسي لحمًا)، ويصور المؤلف البطل « عوض » فهو على شاكلة أبيه :(القوام الممصوص ، اللون الأصفر المَشُوب بمساحات مختلفة من ألوان عديدة ، الأنف القصير الحاد ، الشكل هو الشكل كأنهما نسختان لأصل واحد ... لكن شتان ما بينهما ، كان « عوض » الوحيد المتمرد من أبناء وبنات أسرته)(ص13). 
وفي تحديد التوجهات القيميّة يسأل « فتحي » :
- صليت الجمعة النهارده يا « عوض » ؟ .
- يرد « عوض » : (عليه الطلاق أنا مسلم أحسن منك ومن الشيخ الحرامي بتاع جامعكم ... المهم القلب ... أنا راجع م الغيط النهارده الصبح لقيت حمار الـ« بسيوني » الحرامي مغروز في الطين ، والراجل مش قادر يطلعه ، كنت عايز أسيبه وامشي ، لأنه راجل حرامي ابن كلب، بس صعب عليه الحمار ... الحمار ذنبه إيه صحيح؟ .. قول لي بقى ياحنطور : إيه الخير اللي عملته النهارده ؟) (ص40 ، 41). هكذا يصور المؤلف حياة « عوض » تصويرًا مقتطعًا من طبعه ، وثقافته الشعبية ، وتتعدد أساليب التأثير في الرواية .
والروائي « السعيد أحمد نجم » من (تلبانة) دقهلية - كما قدمنا -   التي أنبتت الشاعر « حسن عقل » ( ) الذي يُقيم في باريس منذ عام (1990م) ، والدكتور « محمد عبد المنعم خفاجي » ( ) جاحظ العصر (1915م - 2006م) ، والقاص المبدع  « محمد خيرت حماد»( ) (1949م) ، والقاص الراحل « محمد روميش »( ) الذي وصفه النقاد بأنه أفضل من كتب عن الفلاح المصري ، (فمعظم الذين كتبوا عن الطين لم يكونوا من (شيالين الطين)، وكانوا من أبناء الطبقة المتوسطة ، فأطلوا عليه من الخارج إطلالة المتفرج ، ولهذا تحول الفلاح المصري - بحسب الناقد   « محمد محمود عبد الرازق »- تحول في أيديهم إلى عود حطب (مخوخ) هش ، لا يعرف عصارة الحياة حتى لو قاموا بتبني قضاياه بدءًا من رواية (زينب) 1914م لـ« محمد حسين هيكل »       (1888م - 1956م)، وليس انتهاء برواية (الأرض)(1955م)     لـ«عبد الرحمن الشرقاوي » (1920م - 1987م). ونحن نطالع صورة « محمد روميش » في رواية (عليه العوض) ، فـ« روميش » في قصته (كل شيء حقيقة) (1968م) يقول عن الفلاح :(باطن قدمه لا تستطيع أن تحدد ما إذا كانت مغسولة أو مغطاة بطبقة من    الطين ، على أن هذا الطين - على فرض وجوده - لم يعد طينـًا ،   إنه طين تآلف مع الجسد الحي ، أخذ منه وأعطاه ، خضع الطين في القدم لمتطلبات المشي والجري على الشوك والتراب ساخنـًا يحرق في الظهيرة ، وباردًا يرجف في الشتاء ، في بطن القدم شقوق ،   في الشق الواحد تخفي إصبع طفل)، وقرية « روميش » هي قرية الروائي « السعيد نجم »، و« روميش » استخدم المثل الشعبي كجزء أصيل من ثقافة القرية ، يُشارك في تشكيل عقليتها ، وحكاية تاريخها ، وقد استضافها « نجم » في (عليه العوض) ، وكلاهما يستخدم المصطبة في أسلوب السرد ، و(المصطبة) في اللغة المصرية القديمة (مستبت) ، وتعني : تابوت ، وقد أخذتها اليونانية ميسيتوبوس (مصطبة ، ومقعد)، وتحورت في العامية إلى (مصطبة) ، كما أخذتها عنها الإنجليزية بنفس النُطق (ماستابا Mastaba)، وفي قاموس المورد بمعنى : (قبر فرعوني مستطيل ، ارتفاعه قريب من الأرض)، والطريف أن الكلمة مُكونة من (مس) بمعنى ميلاد وتبت بمعنى تابوت وتعنى محل الميلاد أو تابوت الميلاد ، لأن اليونانية قد أخذتها بنفس المفهوم فركبتها من (ميسي) بمعني ميلاد ، ومن (توبوس) بمعنى : تابوت أو محل . هكذا يحفظ المؤلفان نبض الحياة المصرية في الكلمة مع براءة الأسلوب من اللغو ، واطراد النسق ، وحلاوة الجرس ، فالكلمة لها تاريخ لا يشوهها لحن ، ولا تتعاورها ركاكة ، ولا تنبو على أوزان اللغة ، وهو لفظ أقوى على الحياة ، وأسهل على الطبع ، لا يثقل في الآذان ، ولا يعسر على اللسان ، والمؤلفان يصور كل واحد منها الريف بأسلوب واحد فهما ضد السلطة الباطشة    بالفلاح ، وكلاهما يذكر الشكوى التي تعودنا عليها منذ نجاح شكوى الفلاح الفصيح ( ) ، كلاهما يحمل تاريخ بلاده بين جنبيه ، والفلاح عندهما هو نفس الفلاح الذي كان يقطن الأرض منذ آلاف السنين ، والبُغاة عندهما هم بُغاة كل عصر ، وكلاهما ترك بصمته على    الطين ، وكلاهما كتب عن التمرد ، ترى في (عليه العوض) النشيد من الأفق الغربي لـ« روميش » (1967م)، والليل الرحم (1969م) لـ« روميش » أيضًا ، وكلاهما يستخدم تقنية تكسر الترتيب الزمني ، فتارة نعيش في الرواية مع الحلم ، وتارة نشد إلى الماضي ،      وتارة أخرى يتم التركيز على اللحظة الحاضرة ، مع نقلات مكانية من نفس النوع ، والرمز من العناصر التي تضع رواية (عليه العوض) في جو رائع ، فـ« عوض » رمز المواطن المصريّ الأبيّ الذي يقف في وجه السلطة الغاشمة ، فهو يدفع الخفير في الطين (ص 52)، ويضرب شيخ الخفر (ص 53)، وهو لا يخشى ضابط الشرطة وأعوانه (ص 55) : (ولا الحصان ولا اللي راكب الحصان يهزوا شعره من راسي) ، و(ص 57) يضربه الضابط فيسبه : (بصقت في وجهه فطرحني أرضًا وداسني بحذائه الميري كمن يقتل ثعبانـًا) .
رواية الشعــــور
المؤلف في (عليه العوض) يوجه من طرف خفي ، إنه لا يقول لي بشكل مباشر : إن هذا الشخص ليس صالحًا ، ولكنه يدفعني لأن اعتقد أنه غير صالح ، عن طريق الحوار الذي أقامه بطريقة تبدو وكأنها حيادية ، ولكنها وراء الحياد . وهنا تكمن لعبة المؤلف الحقيقية ، فالرواية في النهاية معطى شعوري أي أنها تعبير عن الشعور .
والعمل الذي بين أيدينا وإن ذكر التاريخ فهو عمل لا يأخذ شكل التاريخ الجاف ، لأنه لا يأخذ أشخاصًا ويتتبع تطورهم ، وإن تحدث المؤلف عن واقع القرية المصرية ، فهو لا يتحدث عن الواقع كما هو ، إنه لا يكتب قصة سوسيولوجية ، لأن السوسيولوجيّ يكتب عن الواقع أفضل من الروائيّ ، والسينما تنقل الواقع أفضل من الروائيّ ، والرواية تنقل لنا (الشعـور) الذي لا يمكن أن تنقله السينما  أو السوسيولوجيا ؛ لأنهما تعبران عن الظاهر ، والعمل ، والحركة ، ولذلك يرى بعض النُقاد أن :(رواية الحركة ، ورواية المغامرات ، ورواية الوعي) قد انتهت ، و(رواية الشعور) هي التي تظل موجودة. ورواية (عليه العوض) تواكب الأحداث التي عاشها المجتمع المصري حديثـًا ، وقد سبقه في ذلك عدد من المبدعين ، الذين كتبوا عن أحداث عصرهم ، ومجريات الأمور فيه ( ) .
فحين تُخبر ابنة البطل أباها بمرض جاموسته ينتفض (« عوض » كمن لدغه ثعبان ، جرى نحو البيت بكل سرعة يستطيعها ، يكاد ينكفئ ، لو كان أحد أولاده لما كان بهذه العجلة ، صوته المرتج يلهج : سترك يا رب ... رحمتك يا رب ... إلا دي)(ص 100). وحين تبوء محاولات إنقاذها بالفشل ، (« عوض » الجريء يدير ظهره ، لا يجرؤ على رؤية السكين تهوى على رقبة أعز ما يملك ، قلبه يعتصر ، وأولاده يصرخون ، وزوجته تلطم خديها ، وتشق جلبابها .. الأعين تستجدي الجاموسة أن تتحرك أية حركة مهما كانت ... جسدها هامد كأن الحياة قد هجرته قبل الذبح ، الدم يتجمد في العروق ، وتنظر العيون في العيون ، وتعقد الألسنة ، فجأة تتحرك رقبة الجاموسة ، حركة لا تكاد تبين ، انفرجت الأسارير ، وهدأت القلوب ، وانفكت الألسنة تردد : الحمد لله ... الجاموسة حلال ، وانصرف كثيرون)، (ص 100) أيضًا نفس الصفحة .    
وتبقى جاموسة « عوض » رمزًا موحيًا في فضاء النص ، إضافة إلى استدعاء الرموز الشعبية في الأمثال للبحث عن الواقع عبر الزمن (القديم) ، فتتداخل الأزمنة عبر رؤية روائية واعية لها دلالات ثرة ، وهكذا تكشف علاقات النص الداخلي عن شبكة دالة ؛ لنقف عند العديد من القضايا ومن ذلك : رحيل « جمال عبد الناصر »  في (28 سبتمبر 1970م)، والموت في الرواية أفضل من الحياة في واقع ردئ ، ورحيل الزوجة ، والحس المأساوي العميق في الوجدان ، والهزيمة العسكرية والسياسية ، وبقاء الطبقة الإقطاعية ، والتخلف الذي يعكس قضايا الحاضر ، والخرافة السائدة عن العفاريت (ص 66) ، والفقر(ص 70) ، ونقرأ (ص 71):(من كانوا الأغنياء في قريتنا قبل « عبد الناصر » مازالوا هم الأغنياء في عهد  « عبد الناصر »). ويأتي ختام الرواية (ص 120):(مذياع صغير ينساب صوته ، لقد قامت ثورة يوليو من أجل الفلاح ، ليجد مكاناً على هذه الأرض ؛ ليرفع رأسه بين الخلائق ؛ ليزرع أرضاً يمتلكها فيتحرر من أسر لقمة العيش ، وذل السخرة ؛ ليشرب ماءً نظيفاً ، ويستنشق هواء الحرية ؛ وليتلقى أولاده نور العلم ... وتهيج الكلمات البطل « عوض » في غرفة الإنعاش ، حاول التعليق ، انسابت الدماء ، تدفقت من فمه سيلا ً لا يمكن إيقافه).
فالإعلام صوّر مِصر كجنة الخلد ، موشية الأديم ، رفافة النسيم ، دانية الظلال ، زاهرة ، ناضرة ، والواقع يختلف تمامًا ،  فالفقراء والمعدمون كُثر ، ناكسة أبصارهم ، عانية رقابهم ، لم يبتسم لهم الزمان ابتسامة الإقبال ، وأغفى عنهم فضاع ملاذهم ومبتغاهم ، وصاحب الرواية صور ذك كله في فكرة عميقة ، وملاحظة دقيقة بعيدة الغور والمغزى ، وإيقاع اعتمد على الحذف ، والاختصار والتباطؤ في استبطان لدخائل شخوصه ، والتوقف حين يصل التباطؤ إلى ذروته ، وقلة عدد الصفحات التي تشغلها القطع الحوارية  بحيث ضمن المؤلف فعاليتها الجمالية ، ونبه المتلقي إلى مدخل لالتقاط الإيقاع ، وإدراك المنظومة الكلية للمتواليات النصية .
وتُظهر هذه الرواية قدرة صاحبها على الاقتراب من قضايانا المعاصرة للعودة بالمُتلقي إلى حال من التوازن والسكينة ، حين يطالع مشاكله ، وهي تحدث إلى أبطال العمل في النص الروائيّ الذي يحمل لغة شعرية واضحة كل الوضوح ، فيها براعة السرد ، وحرارة الشعر ، ونبض الوعي والصدق والواقعية ، ولقد برئ النص الذي    بين أيدينا من شبهة الغموض المستغلق ، والإشارات المفتعلة ، فهو ينبع من الناس ويصب فيهم . ولغة الكاتِب تتسم باكتمال نموها وسموها ، مع البراعة في استخدامها ، وذلك يمثل في قصد العـِـبـَارة ، والبُعد عن الزوائد واللغو ، والاقتصار على ما هو جوهريّ 
(2) عـطـيـة زهـــري ( ) ، و : (بـائـعـة الـجـعـاريـــن) .
إضـاءة على لفـظــة (جـعـاريــن)
الجعارين مفردها (جِعران)، والجِعران (Scarab) أو الجُعل عند قدماء المصريين : تمثال لحشرة سوداء من نوع الخنافس (خنفساء الروث)، ولونها بلون فحم الإنثراسيت ، وأطلق عليها قدماء المصريين اسم (خبرر Kheprer) وقدسوها ، وعندما بدأ ظهور الكتابة ، استخدمت صورة الجعران لكتابة كلمة معقدة هي الفعل   (خبر Khepr) بما معناه : يأتي إلى الوجود باتخاذ صورة معينة ،    ثم صار بمعني " يكون " أو " يصير ". ولما كان الجِعران وثيق الصلة بفكرة الخلق تلقائيًا ، عن طريق المشابهة الصوتية ، اعتقد أهل هليوبوليس (شمال شرقي القاهرة ، قرب الصحراء) أنه مظهر للرب الخالق " الذي أوجد نفسه بنفسه " ، الرب (خبري) أي الشمس المشرقة ، ومن بين الصور الغريبة المحفوظة في وادي الملوك ، خنفساء ضخمة سوداء تخرج من الرمل وتسحب كرة متوهجة . ويفسر « بلوتارك » ذلك بقوله : " أما خنفساء الجعران فالمعتقد أنه ليس لها إناث ، وكل الجعارين ذكور ، فتضع بذرتها في حبة من مادة تجعلها على هيئة كرة ، وتجرها خلفها وهي تدفعها بأرجلها الخلفية محاكية بفعلها هذا مسير الشمس من الشرق إلى الغرب" . وقد استخدمت الجعارين المصرية في الأغراض العامة فكانت أختامًا (كالأختام الأسطوانية ، وأزرار الأختام التي على صورة الحيوانات ، والخواتم الذهبية الضخمة). وإذا وضعت فصًا لخاتم أو عقدأمكن أن تختم بها سدادات الأواني ، والخطابات ، والمزاليج ، ضد  عبث اللصوص . كما كانوا يحملونها كتمائم واقية رخيصة ،  إذ خبأت هذه الحشرة في نفسها قوة تجديد حياتها باستمرار .
وقد أنتجت آلاف من الجعارين بسرعة وبصناعة خشنة غير متقنة غالبًا ، والنقوش التي عليها مكتوبة بطريقة رديئة ، حتى صار من الضروريّ استخراج الجعارين من الحفائر للتأكد من أنها أصلية لا زائفة ، ومازالت هذه الحلي البسيطة التي تباع في مناطق البحر المتوسط منذ العصور القديمة أكثر التذكارات المصرية شيوعًا ، ورغم العثور على الآلاف من الجعارين في الأكوام والمقابر ، فلا يزال التزييف على أشده لسد حاجة الطلبات الدائمة .
ويتراوح طول الجعارين المصنوعة من الحجر الصلب مثل : سليكات الماغنيسيوم الصابونية (الإستياتيت) المصقولة ، أو الحجر الجيري ، أو الفيانس ، مابين (1سم ، إلى أكثر من 10سم)، كما يتراوح شكلها من الطبيعي إلى شبه الجعران ، وغالبًا ما يُنقش البطن أو الجانب المسطح للجعران إما بالكتابة أو بالرسوم تبعًا للغرض المقصود من الجعران .
وكثير من الجعارين كانت أختامًا تحمل اسم الموظف وألقابه . ونُقشت عليها الأمنيات ، مثل : (عام سعيد لفلان) أو الحكم مثل : (راحة البال خير من الغضب)، و(آمون قوة الوحيد) ، وعدد كبير منها يحمل أسماء ملكية نقشت من أجل الصفات التي تعبر عنها ؛ فيعبر الاسم الأول (من - خبر - رع) لـ« تحتمس الثالث » العظيم ، ومعناه الحرفي : " عسى أن يستمر رع في جلب الحياة " .
وقد أصدر قدماء المصريين الجعارين التاريخية بنفس الطريقة التي تصدر بها النياشين التذكارية ، وتضم المجموعة الصغرى اسم الملك مَتبوعًا بلقب يدل على عمله ، وتحمل المجموعة الكبرى على الجانب المسطح للجعارين الكبيرة أخبارًا قصيرة .
والرسوم المنقُوشة على الجعارين المُزخرفة عديدة ، وتشمل الزخارف الزجزاجية والحلزونية ، ورسومًا أخرى تتضمن علامات واقية كما تُخفي أحيانا بعض الألغاز ، وصور الآلهة ، والملوك ، وأحيانـًا تكون الرسوم عبارة عن مناظر حقيقية وحيوانات مقدسة . كذلك يمكن تحديد تاريخ طبقة أرضية أثرية بواسطة الجعارين عند الافتقار إلى أي دليل آخر ، فإذا ما عُثر بطبقة ما على بعض الجعارين ، استطاع الخبير - من خلال دراستها - أن يحل رموزها وأسرارها ، كما يفعل خبير النقود والنياشين القديمة ، كما يمكن معرفة حياة    مِصر (الاقتصادية ، والاجتماعية ، والدينية) من الجعارين وحدها . ولقد كان هناك عدد كبير من جعارين القلب الكبيرة المصنوعة غالبًا من الحجر الصلب أو من الفيانس ، وتحدها أجنحة الصقور ، بطلاسم جنائزية خاصة ، إذ كانت تُوضع بين طيات أكفان الموتى ، أو تُرصع بها الحلي الصدرية ، وكثيرًا ما كانت تُنقش عليها الفقرة الثلاثون     من كِتاب الموتى ، ومنها :
( أي قلبي يا أوفى جزء من كياني ، لا تقف شاهدًا ضدي أمام المحكمة ... لأنك الإله الموجود في جسمي ، وخالقي المحافظ على أعضائي)( ).
ويوضح الميت بذلك السلوك المنتظر من القلب السحري أثناء احتفال وزن القلب .
ولقد اعتقد المصري القديم بأن الروح تتعرض للمحاكمة ، فيقف الميت أمام محكمة تتكون من 42 قاضيًا يمثلون أقاليم مصر ، ويرأسهم الإله « أوزيريس » (إله الموتى) ، ويقوم الميت بذكر أعماله الحسنة ، ويتبرأ من الآثام ، وبعد ذلك يوضع قلب الميت في إحدى كفتي ميزان العدالة ، وفي الكفة الأخرى توضع ريشة تمثل الإلهه     « ماعت » Maat ( ) (إلهة الحق والصدق والعدالة):
-  فإن خفت موازينه : كان ذلك دليلا ًعلى صدقه ، ويكون مصيره النعيم الأبدي .
- وإذا ثقلت موازينه : كان مصيره العذاب الأبدي بـيـن الأصـالــة والحـداثـــة
لقد كانت هذه الإضاءة ضرورية للدخول إلى رواية (بائعة الجعارين) للروائي « عطية عبد الغني زهري »، وهي من الروايات التي اجتمعت فيها جُل عناصر التميز، حيث وفق صاحب العمل في توظيف التاريخ الفرعونيّ في الرواية ، فلم ينظر إليه نظرة كثير من المصريين الذين يعتبرون الحضارة المصرية القديمة وثنية ، بل نظر إليه على أنه بداية مسار الإنسانية إلى الإيمان ، فقد أدركوا وجود الخالق ، وأن هذا الكون لم يُخلق عبثـًا ( ). وجمع الروائيّ « عطية زهري » في روايته بين الأصالة والحداثة والذات في صبوة المريد ، وأنة العطر، وزهوة الفجر، وأسطورة الحب التي عاشت في ذاكرة الزمن ، وأحاديث الأشواق التي ألهمت المبدعين أروع قصص الحب ، والرواية صادرة عام (2005م)، عن دار المغربي للطباعة ، وتقع في (244 صفحة) من القطع الوسط ، وتضم بين جلدتيها المشاعر النبيلة ، والبوح ، والدهشة ، والسحر ، والغناء ، والفن الذي يتحول مع الكلمات إلى واحة ظليلة ، وزهور جميلة ، وإبداع تعطره القيم الجمالية ، بطريقة واعية واعدة ، مقصودة ، وتتعدد مستويات العطاء الفني والمفردات الحياتية التي تستنفر الإرادة وتحمل لغة   الحلم ، وتسعى وراء الأشواق الطائرة ، والمدن العامرة ، تضع يدها على مواطن الداء , وتصف الدواء ، فالعمل الأدبي في حقيقته نتيجة انعكاس الوجود على ذات الأديب المبدع ، ولما كانت ذات الأديب ليست مجرد (كاميرا) آلية تنقل الشيء كما هو ، فإن انعكاس الوجود الخارجي على نفس الأديب يعني انصهار الوجود الخارجي عن طريق التجربة الوجدانية ، أو (الحدسية) التي يعانيها بوجوده الذاتي ، وهذا هو الفارق الكبير بين موقف الفن عمومًا من الوجود ، وموقف العلم والفلسفة منه ، فالفن أسمى صورة تظهر الحقيقة وتجلوها عن طريق (الحدس) الذي هو إدراك طبعي فطري من تأثير الخيال ، ينكشف فيه الحجاب بين الذات المدركة ، والموضوع المدرك) (بحسب د. « عبد الله حسين »):(ذلك لأن الفنان بعمله الفني قادر على أن يزيل التناقض بين الذات والموضوع ، أو بين الروح والمادة . والخيال هو القوة التي تمكنه من اختراق الزمان والمكان ، والأنفس ، والشخصيات ، والمواقف ، والأحداث ، وما وراء ذلك كله من آفاق وأعماق , وأبعاد من شأنها أن تحقق له قدرًا من الاستبصار ، والشفافية ، والاقتدار على التعبير ، والتصوير ، والتأثير بما لا يقتدر عليه الآخرون).
ولقد اختلط (البناء الروائي) عند الروائي « عطية زهري » بالحقائق التاريخية ، والأسلوب الشعري البالغ في الدقة والجمال ، حيث تتجلى شخصية مصر الفرعونية من خلال عمل مُشرق ، مُمتع في فكره ، استطاع أن يخطف من صاحب هذه السطور عينه ، وتركها تتجول بين صفحاته التي تربط بين الاجتماعيّ ، والدينيّ ، والسياسيّ ، والخياليّ ، كما تصور الصراع الحياتي من أجل المال ، والهيمنة ، والسلطة ، وبذلك تُشكّل الرواية صورة داخلية للحضارة الفرعونية من خلال البحث عن اليقين ، في عالم مضطرب ، وشخصيات محكمة البناء لها همومها ، وأفراحها ، وأتراحها ، وتقاليدها ، وعاداتها ، وأعرافها وتجلياتها ، وإيمانها الذي يثير العديد من القضايا التي تبدو تاريخية ، لكنها أزلية ومعاصرة في الوقت نفسه .
 ومن الجدير بالذكر أن هناك رواية قصيرة لـ « محمود تيمور » تُدعى (مَعبُود من طين)، نشرها عام (1969م)، يستدعي فيها إلهًا فرعونيًا قديمًا ألهه المصريون القدماء ، بوصفه مثالا ًللعدل والحرية والحق ، ويُحلل فيها النفس البشرية ، ويسبر أغوارها ، وهذه الرواية مع رواية « تيمور » (كليوباتره في خان الخليلي) تُمثلان تجربة ناجحة لرواية الاستدعاء التاريخي .
ومن المُعاصرين في روايات الاستدعاء التاريخي تأتي روايات :      « نجيب محفوظ » (1911م - 2006م) في (رحلة ابن فطومة) ، و« نجيب الكيلاني » في(عمر يظهر في القدس)، و« محمد جبريل » ( )  في (من أوراق أبي الطيب المتنبي) .  ونحن في راوية (بائعة الجعارين) أمام عمل فني مركب فكريًا وحرفيًا ، وهو تركيب صائغ صانع ماهر عشق الهندسة ، وأخذ منها ملامح الفن ، وأبحر فيه ، وراح يعتصر الفن من دمه ، وتاريخه الذي مضى ، وتاريخه الحاضر الذي سيمضي هو الآخر ؛ ليترك لنا وقائع وحوادث بين تاريخين : تاريخ الوثنية ، وتاريخ التوحيد . 
الـزمــان والمـكـــان
زمن الرواية يمتد في التاريخ الفرعوني القديم ، ويواصل سيره حتى زمن التوحيد حيث :
(ورث « إبراهيم » هذه العقيدة لإسماعيل وإسحاق ، وورثها  « إسحاق » لبنيه من بعده ، و كذلك فعل « يعقوب بن إسحاق » مع بنيه ، وكان « يوسف بن يعقوب » ناشرًا عقيدة التوحيد في مصر ، في سجنها ، وفي شعبها)(ص 180).
وتسأل البطلة « كمسيت » الحكيم « إثو »:
(ما هو أعجب ما سمعت من دين إبراهيم ؟)؛ فيجيب :(كل ما سمعته عجيب).
وتعود للسؤال عن النبي الذي يأتي في آخر (الزمان) من نسل          « إبراهيم » ، فيرد الحكيم :
(اسمه « محمد بن عبد الله »، ويولد يتيمًا ويسود العالم .. !!) (ص 182).
وهكذا يحملنا المؤلف على جناحيه ، مخاطبًا الروح ، حيث يطارح القلوب بالترانيم ، دون أن يتخلى عن البناء المعماريّ الفنيّ المُحكم للرواية ، أو يخاصم الموروث الثقافي .
روح مِـصـــر
يصاحبنا الروائي « عطية زهري » في رحلة رائعة ممتعة عبر العصور( ) فتبدو في الرواية روح مصر وحضارتها بوضوح .      وقد يربط المؤلف بين زمن الرواية وبين زماننا :(وما أكثر الخرائب الآن في بلادنا) (ص 19).(... إنها روح المصري التي يبثها في كل الأنحاء من حوله ، وفي كل الأشياء ... إنها روح التماسك والترابط ، والإبداع ، فكل جزء تحفة ، وكل مجموع عبقرية ...)(ص 35). وللزمن دورته ..(والشمس التي تُولد في الصباح ترتاح عند مجيء الليل في الجبل الغربي ... ينجب الرجال ، وتلد النساء ، وتتنفس جميع المخلوقات الحية الهواء ... وتلد الأطفال في الوقت المحدد ، ثم تذهب إلى قبرها ... لا حياة يمكن إطالتها في أرض مصر ،        ولا يوجد من لا يذهب إلى العالم الآخر... وليست فترة البقاء في الدنيا إلا بقدر فترة الحلم . وإذ تواجهنا حتمية الموت ، والجهل بالمصير الذي ينتظرنا وراء القبر فليس أمامنا والحال هذه إلا مسلك منطقي واحد : اقض يومًا بهيجًا...)(ص 56). هكذا يمتد الزمن     من الصباح حتى المساء ، وهكذا تبدو الحياة المرتبطة بالناس ، وتكون النهاية مرتبطة بالموت ، فالزمن له سطوته ، والمؤلف يتعامل معه ومع المكان في (الجبل الغربي) بقدر مدهش من الوعي ، وهنا تبدو قدرة المؤلف على التقاط الجزئيات الصغيرة والمتناهية في الصغر، فيقوم بصهرها ، ويعيد تركيبها ؛ ليبوح من خلالها بكل ما لديه . والمكان على امتداد الرواية هو مادة الوجود ، وحركته هي صانعة الزمان ، وفي إطار من الزمان والمكان وجدت التجربة الإنسانية ، ولا توجد تجربة إنسانية بعيدة عن التأثر بهذا الإطار ، ومن خلال الزمان والمكان يظهر الواقع المصري الذي نحياه مع الواقع الذي بناه المؤلف في الرواية ، دون أن يخلو السرد من أساليب مبتكرة ، وهو ناظم شملها ، والإنسان المصري في كل هذا يقف في وجه القوى القاهرة المسلطة عليه بشموخ وإصرار وعناد ، يعمل في دأب ومثابرة ضد الانسحاق ، لا يُصفى حساباته مع الزمن ، ولهذا تظل رواية (بائعة الجعارين) صالحة كمدخل أساس لعالم الروائي     « عطية زهري »، وللزمان والمكان فيها طعم ومذاق شديد الخصوصية ، حيث نشاهد المصري المناضل العامل الذي يُرصع السماء بالنجوم ، ويضمخ النسيم بالعبير في جميع مقاطعات مصر .
الشخـصـيــات
قدم لنا الروائي « عطية زهري » أكبر كمية من المعلومات عن شخصياته ومظهرها الخارجي , وطريقتها في الكلام والتصرف , وجعل المتلقي يتعرف على ماضي شخصياته ؛ لأن في ذلك الماضي تقع كل دوافعها في تصرفاتها الحاضرة , كما أن الشخصيات لها استقلالها الكامل , ومن الشخصيات الرئيسة في الرواية : الحكيم      « زاو » ، وزوجته « نفر »، وبناته :(كاويت ، وعاشيت ، وكمسيت)، وابنه « سركاف » الذي يظهر بعد غياب باسم « إثو » . وهناك القائد « سبنى »، و الساحرة الشريرة « هنهنيت » ، والجني العملاق « أخرونوفرت » الذي استدعته « كاويت »، والساحرة الماهرة « نفرسفخي »، وساحرة مصر العليا (الوجه القبليّ حاليًا)    « نبسنت »، وسبعة شبان من قطاع الطرق حولتهم « كمسيت »     إلى مجموعة من المبدعين الأخيار منهم « باخن » الذي حصل    على جِعران « عاشيت » ... والشخصيات التي اختارها صاحب العمل كتلة دائبة الحركة من الخواطر والأحاسيس والمشاعر ، والنوازع ، والرغبات ، والأحلام ، والأنغام ، المختلفة ، يقيم المؤلف عن طريقها تناغمًا بين الأزمنة والثقافات المتنوعة في خيال ينطلق عبر الأزمنة ، والمخلوقات ، والبيئات ، مع سرد ذكي متدفق يحمل في أغواره الزمن السحيق الغائب ، والزمن الحاضر ، كل ذلك في لغة مصقولة مبتكرة التعبيرات أحيانـًا ، كلاسيكية الطابع أحيانـًا أخرى :(تقول الساحرة « نبسنت » بحب وهي ممسكة بخطام الفرس ولجامه - تقدمه لـ« عاشيت »: هذا فرسك الطيار « عاشيت ») (ص133). والخطام لغة ً: الزمام وما وضع على خطم الجمل ليقاد به . ويقال : وضع الخطام على أنف فلان : أي ملكه واستبد به . والجمع: خطم وأخطمة . وفي (ص 168) تصرخ « كمسيت » بثورة (أين المشفى والقصر والمسرح ؟). و(ص171) يقول عن  « كمسيت »:(إذا كان داخل المرء مضطربًا (مكردسًا) بعضه على بعض أعادت تنظيمه)، والكردوس في اللغة : كل عظيم تام ، ضخم ، والجمع : كراديس ، وتكردس الرجل : انقبض ، واجتمع بعضه إلى بعض ، ويُقال : كردس القائد الجيش ، أو الخيل : جعله كراديس .
وفي صفحتي(210 ، و 211) من الرواية نجد « أخرونوفرت » يقدم تقريره لـ« كاويت »، فتقول له :(أليس من المناسب أن نخطر  « عاشيت » لتتعاون معنا في هذا الشأن « أخرونوفرت » ؟) . فيبتسم « أخرونوفرت » ويقول: (إن كانت مشاركتها بأن تتشرف بمساعدة أختها فلا بأس !!) - فتندهش « كاويت » وتقول :(ماذا تعني « أخرونوفرت »؟!) - فيقول :(أعني أننا لسنا في حاجة لمساعدة أي إنسان قريب أو بعيد ، فالأمر مسيطرٌ عليه تمامًا ..!!)- تقول « كاويت » :(ولكن في الحروب يُحسن استخدام كلالأسلحة .!!) - فيرد عليها :(ليس من الكياسة استخدام كل الأسلحة في كل الحروب). فتقول : (أمرك غريب وعجيب حقـًا .. ماذا تعني أيها الجنيّ المتمرد ؟).- فيضحك « أخرونوفرت » وهو يقول :(إنما تستخدم الأسلحة على حسب الأعداء ، ونظام الحرب ، والأسلحة المستخدمة فيها .!! ، وأمر هؤلاء الأعداء أبسط من أن تشاركنا    فيه « عاشيت » بإمكاناتها الجبارة !). فتحول الحديث إلى  « أخرونوفرت » ليدور حوله هو :(أين تعلمت هذه الجرأة وتلك الثقة « أخرونوفرت » ؟)، فيقول :(حباني بها ربي .. وأنا متعلم في جزيرة السحر الأعظم ..!!)- تصرخ « كاويت » وتقول :(ماذا تقول « أخرونوفرت » ؟!! ، ولماذا لم تخبرني بذلك قبل ذلك ؟) . فيجيب :(كل شيء بأوان « كاويت » .. فلا تسبقي الأحداث)- فتقول :(إنني في أمس الحاجة لزيارة هذه الجزيرة والوقوف على كتاب السحر الأعظم الذي تحتويه هذه الجزيرة)، فيقول الجني : (سوف تحققين كل ما تتمنين « كاويت » وزيادة .. ولكن أنصح بالصبر والثقل).
والحوار كما نرى جاء سريعًا مشحونـًا بالعديد من المعاني والمشاعر، التي أشار إليها صاحب العمل ، كما أنه  اعتمد على الاقتصاد في الألفاظ ، والعبارات المكثفة الكاشفة لـ:(المواقف ، والفِكر، والشخصيات)، وهذا هو الفن بعينه أن تقول ولا تقول ، وأن تكون الصنعة خفية غير مقحمة ، تُحلق بجناحيّ الفن ، بحيث يكون المحصول غزيرًا وفيرًا رغم قلة البذور( ).
الـبـنـيــة الـسـرديــة
والأديب « عطية زهري » يسعى بدأب لتنمية حكايته ، ليطل منها على المجتمع المصري بأكمله ، فيدخل في أعماق أفراده ، وطبقاته ، وتناقضاته ، دون أن يعقد حكايته المركزية بتفصيلات حكائية فرعية ، ذلك لإيمانه الشديد بأن عدم الخوض في التفاصيل يحفظ له بنيته السردية ، مع التجدد بين الشخصيات والأحداث . والسرد - كما هو معروف - من المصطلحات الأدبية التي يقصد بها الطريقة التي يصف بها الكاتب جزءًا من الحدث ، أو جانبًا من جوانب الزمان      أو المكان اللذين يدور فيهما ، أو ملمحًا من الملامح الخارجية للشخصية ، أو قد يتوغل إلى الأعماق ، فيصف عالمها الداخلي ،    أو ما يدور فيه من خواطر نفسية ، أو حديث خاص مع الذات .  
وقد استطاع الفنان « عطية زهري » استيعاب هذه التقنية في سرده من خلال لغة خاصة راقية ، ونحن حين نقرأ الرواية نتمثل حوادثها من خلال تلك الألفاظ الثرية التي نقشها صاحب العمل باقتدار في روايته ، فنحن نراه يُلون لغته بتلون المواقف ، والأدوار ، وطبيعة الشخصيات ، والأحداث ؛ فلا تخونه الحيل الفنية ؛ ولهذا فقد تجنب التحرك على وتيرة واحدة ، واختار بعناية ألفاظ لغته ، وصاغ عباراتها بمهارة ، وبهذا وُفق في وضع كل (لبنة / لفظة) في مكانها .
خـوفـو العـظـيــم
ونراه يقف عند « خوفو »( ) بماله من عمق تاريخي (ص 69) : (ولكن « عاشيت » رغم ازدحام الحياة حولها بكل رخيص ،       وبكل فساد أخلاقي ، كانت تعف نفسها ، وتسوق العفة ، بعقيدتها الراسخة في حكم « خوفو » العظيم الذي كان يحكم بالإعدام على كل زانية ( ) ! أروع ما في حضارة « خوفو » من إبداع ... فالشرف يُساوي الحياة ، وليس لتدنى المرأة وسقوطها في الرذيلة من عقاب إلا سلب الحياة . إنها ترى الشرف يتعاظم في السماء وفي الزمان ، وكأن « خوفو » أقام هرمه العملاق تخليدًا للشرف المصري ، وحفظ الأمة المصرية من الحرمان من الشرف ، وحري بحضارة قامت على الشرف والطهر أن تبقى أبد الآبدين حية شابة متواثبة).
والشخصيات لدى الروائي « عطية زهري » تمتلك فرادة مدهشة ، وتناقضات نفسية خفية تنطوي على أبعاد إنسانية عميقة الغور تحفر في الوعي النفسي المحيط بالحدث .
وتسود فكرة الذات المحبة للحياة المقاومة للموت ، وبين الموت والحياة يضع المؤلف خلفيته التاريخية في سرد حر ، لا ننتظر منه معارف تاريخية نتعلم منها ، لكن السرد قائم بين أيدينا .
وللتاريخ سمة وحضور فيه ، وهو حضور يجمع بين التاريخي والاجتماعي ، ويحمل المعاناة اليومية للإنسان المصري .
وبالإضافة إلى المفارقة بين الشخصيات , وعالمها الروائيّ الحيوي فإن صاحب هذا العمل استعان بعدد من العناصر التي أثرت هذا العالم الروائي الحي ، ومنها : التطابق بين الطبيعة الخارجية والحالة   النفسية , والتشويق بالغموض تلو الغموض , والمونولوج الداخليّ والحوار, والتأثر القرآنيّ .
ولا ريب أن الحالة النفسية للأفراد تلقي بظلالها على الطبيعة , وتتأثر بها في الوقت نفسه .
وعملية التفاعل بين النفس والطبيعة , مسألة حيوية في بناء الرواية , فهي تشبه الموسيقى التي تعطي نوعًا من الانطباع أو التصوير للأحداث , أو بلغة السينما (موسيقى تصويرية) .
ومن هنا تكتسب الرواية قيمتها الجمالية في إضفاء مَسحة من الجمال الفني في عملية السرد الروائي( ).
وإذا كانت (الطبيعة الخارجية) تقوم بدور (الموسيقى التصويرية)    في الرواية وإضفاء لمسة جمالية على النص الروائي , فإن الكاتب عمد إلى تشويق القارئ بصورة تحقق التفاعل بينه وبين الأحداث في تصاعد مستمر .
والمؤلف يقوم السرد عنده على نسق أسلوبي حافل بهذا الحس التراثي التاريخي ، ينسج منه نصوصه .
ونحن في الرواية نطالع الحاضر في امتداده الزمانيّ التاريخيّ ، ونستخرج منه اللحظات الإنسانية التي تتصارع فيها النوازع المتناقضة .
وتتنوع شخصيات الرواية ، فمنها :
المتحركة , والنامية ، والمتحولة ، والجاهزة المكتملة الملامح ، المعروفة السمات سلفـًا بحكم واقعها التاريخي ، وانطباعها في أذهان الناس عامة .
كما أن الشخصيات لها دور, ولها دلالة في زمانها وواقعنا , ولها معطياتها التي تؤثر في مسيرة أمة وحياة شعب .
والإسقاط على الشخصيات قي الرواية لا يحتاج إلى كثير جهد ؛ لفهم أبعاده ودلالاته ، وشخصيات الرواية في كل الأحوال تصنع عالمًا يتصارع فيه الخير مع الشر .
وقد عمل الروائيّ « عطية زهري » على بقاء عامل التوازن الذي يحكم حركة الشخصيات والأحداث في الرواية , ويمنع حدوث الخلل الفني في بنائها .
ويمكن أن نلمس أمثلة كثيرة لذلك التوازن على مدى الرواية ، التي تخلو من الفجوات ، وتبوح بأسرار الحياة ، وتحفل باستخدام الحيل الفنية ، وتراعي مستويات التخاطب ، وتطور أساليب الاتصال الإنساني .
هذا ، وتتعدد في الرواية - التي بين أيدينا - تقنيات السرد من خلال نسيج لغويّ بديع ، يدل على أن صاحب العمل على دراية تامة بسحر وإشعاع الكلمة التي تجلي جوانب شخصياته ، وتضيء الحدث ، وتكشف عن نفسيات الشخصيات ، وتُوحي بصدى الحدث ، مع بث الحياة والصدق في الشخصيات ، وقطع رتابة السرد ؛ ليزيد إحساس القارئ بجاذبية الرواية ، وصدق الصراع العاطفي بها . إخال أنه لابد أن يكون قد عن لكثير من قراء (بائعة الجعارين) فكرة العدالة والحق والخير والجمال الذي حاول صاحب العمل الوقوف عنده .
ويبقى في رواية (بائعة الجعارين) كيانها ، وطاقاتها ، وصورها الفنية التي تسحر القارئ ، وتبهر الناقد الكاشف ، والمحلل الواعي ، الذي يطيل التفكير في الآثار الفنية ، ومنجزاتها ، ومن نافلة القول أن نحاول تأكيد العلاقة بين الأدب والنفس الإنسانية فهي قضية مسلمة في غير حاجة لتأكيد أو إثبات ، إذ يكفي من تساوره لحظة شك أن يلقي نظرة على (بائعة الجعارين)؛ ليجد النفس الإنسانية ماثلة أمام    ناظريه - ذاتـًا وجماعة - في وساوسها ومخاوفها ، في اقتحامها وجرأتها ، في يأسها وطموحها ، في حبها وكراهيتها - في كلمة -    في علاقاتها المتشابكة مع نفسها ، ومع الكون والطبيعة ، ومع القوى التي تشاركها سكنى الكون ، ظاهرة أو مختفية ، طائعة أو مسيطرة ، ومع جماعتها ، وبين جماعتها والجماعات الأخرى ...
هذه النفس في هذه الحالات جميعًا ، هي مطمح الأدب بدءًا وانتهاءًا ، انطلاقـًا منها ، وتعبيرًا عنها ، ومحاولة لاكتشاف مجاهلها ، والانسياق معها أو تطويعها ( ).  
والرواية بصفة عامة تضم تأملات ثاقبة في الطبيعة البشرية ،        وما تحفل به من نقائض ، وما تنطوي عليه النفوس من نوازع الخير والشر ، ولغتها محملة بأصداء قرآنية ، وهي بحق إضافة جديدة للمكتبة العربية .
 (3)    وحـيـد الـسـواح ، و : (فـتـاة مـن مــوســكــو) .
حدد الناقد الدكتور « سيد البحراوي » المجال الدقيق لعمل الناقد الأدبيّ ودارس الفن بصفة عامة ، إذ يرى أن محتوى العمل هو مهمة المؤرخ وعالم الاجتماع ، وشكله هو مهمة اللغوي ، أما القيمة الجمالية للعمل فهي مهمة الناقد ، وهي لا تدرك إلا بالوصول إلى محتوى الشكل ، أي الدلالات الخاصة التي يحملها شكل العمل ، وتنظيم تقنياته ووحداته في نسق . وهذه الدلالات هي في          النهاية محتوى العمل ؛ لأنه ليس إلا شكلا ً دالا ً، أو دلالة مُشكلة ( ).
ولكل كاتب من الكتّاب مراحل لتطور وعيه ، تتأثر بثقافته ، وتجاربه ، وعمق إحساسه بهذه التجارب ، وهذا التطور النفسي للكاتب هو    الذي يفرض عليه مضمون قصصه ، ويؤثر بالتالي على الصيغة الفنية لهذه القصص .
والرواية القصيرة التي بين أيدينا :(فتاة من موسكو) للروائي          « وحيد السواح »( ) حلق بنا من خلالها في أجواء تاريخية تعيد إلى الأذهان سقوط البرجوازية المصرية الكبيرة في (يوليو عام 1952م) ، وصعود البرجوازية الصغيرة التي عبّرت عنها حركة يوليو ، فقد مرت مصر بفترة تاريخية مختلفة تمامًا عن الفترة السابقة ، حيث :
ركز المشروع الوطني الذي طرحه الرئيس المصري الراحل         « جمال عبد الناصر» ( ) على دولة الحزب الواحد ، والسلطة المركزية العلمانية القوية ، والطموح ، والعدالة الاجتماعية ، والانحياز للعَالم الثالث ، ومعاداة الغرب ، وإقامة (عَلاقات ، وتوازنات) جديدة ، على الساحتين : (الإقليمية ، والدولية) ، وذلك خلال حركة عدم الانحياز ، والوَحدة الإفريقية .
وفي مشروع « عبد الناصر » انسحبت البرجوازية الكبيرة مكرهة ، وارتقت البرجوازية الصغيرة - التي تفاعلت مع الواقع الجديد ، وتخلقت طبقة برجوازية بيروقراطية حلت محل البرجوازية القديمة ، بامتلاكها الثروة والسلطة في البلاد ، وارتقت درجات السلم الاجتماعي من خلال سيطرتها على الثروة ، والسلطة ، فكبرت هذه الطبقة . ثم عَجّل بمشروع « عبد الناصر » هزيمة (1967م)،             وتولى « السادات »( ) (1918م - 1981م)السلطة ، فحكم في الفترة من(1970م - 1981م) ، وخلال هذه الفترة جمّد الاشتراكية ، وأعلن سياسة الانفتاح الاقتصادي ، وسلح الجيش المصري ، ودربه للاستعادة الأرض السليبة ، وانتصر على العدو الإسرائيليّ ، ووقع اتفاقية " كامب ديفيد" ثم معاهدة السلام ، وقطع العلاقات مع الاتحاد السوفيتي وناصبه العداء ، وانحاز إلى الولايات المتحدة الأمريكية ( ).
ورواية (فتاة من موسكو) تدور في فلك هذه الأحداث ، فتقترب من المواطن الروسي المغترب في مصر ، أو المواطن المغترب وعَلاقته بالحياة والوجود إذا شعر بلمسة الحب في الوطن البديل .
مـعـايـيــر مـهـمــة
ويستخدم الروائي ثلاثة معايير مهمة في تحليل ووصف سلوك شخصية المغترب الروسي في مصر زمن بناء السد العالي ، وقدم لنا المعايير الثلاثة التي تعكس : (صورة المصري ، وصورة المغترب ، وصورة الأرض) . وهي تقابل ثلاثة مفاهيم رئيسة ، ودالة في عِلم الأدب ، وهي :(الأنا - الآخر - الوطن). فمفهوم " الأنا " يوازي صورة المصري البطل وكيف يتعامل مع المُغترب الروسيّ .             ومفهوم " الآخر " يوازي صورة المغترب الروسي ونظرته للحياة إذا أحب . ومفهوم " الوطن " يوازي صورة (مصر ، وروسيا) وتطور العلاقة بينهما بعد الحرب . ويرتبط ذلك كله بالزمن .
ويقوم المنهج التاريخي في النقد بتسليط الأضواء الكاشفة على ذلك كله ، حيث أن المنهج التاريخي هو إطار من المعرفة يسمح للناقد أن يحدد الماضي التاريخي ، وأصله ، فيكشف عن صحته ويحلل مصادره عن طريق مجموعة من البيانات لمرحلة ، أو عصر ، تمت دراسته عن طريق عدد من الباحثين .          
مـفـاهـيــم وعــــادات
 تمثل (فتاة مِن موسكو) انعكاسًا للتغيرات التاريخية التي حدثت في مصر منذ إنشاء " السد العالي "( )، وحتى عودة افتتاح" قناة السويس " أمام الملاحة العالمية ( ) ، مع غوص الرواية في الظروف : (الاجتماعية ، والفكرية ، والنفسية) لأبطال العمل ، ومس الواقع الطبقي / الأسري المصري ، وما به من مفاهيم وعادات وتقاليد... وتميل الرواية نحو استخدام تقنيات الرواية الحديثة ولاسيما الأوربية مثل :(السرد ، والتحليل النفسي ، والذاكرة ، والخيال الذهني التصويري ، ومناجاة النفس والحواس)، وهي العوامل التي تنظم "التداعي الحر".
ومن المبادئ المهمة التي  أرساها كبار النقاد  في أواخر السبعينيات مبدأ تحرير الأدب من الخيالية الخالصة (Pure Fictionality)، ومن ثم هدم أحد أركان التعريف القديم للأدب - وهو التعريف الذي ظل يطاردنا حتى أواخر الخمسينيات من القرن الماضي ، وتبلور في أوضح صوره في كتابات :(« رينيه ويليك » و« أوستين وارين ») بعد أن اكتسب دفقة حياة قوية من النقد الجديد الذي ازدهر في بدايات القرن العشرين حينما هب النقاد في أوربا وأمريكا للدفاع عن استقلال العمل الفني عن الحياة ، وعن المبدع ، وعن الشخصية - ونادوا بأدبية الأدب - وهو ما يعتبر رد فعل غير مباشر لتدهور النظرة إلى الفن عمومًا في أواخر القرن التاسع عشر .
وكان السند الأول لأصحاب النقد الجديد في الحقيقة مبادئ النقد القديم نفسها ، وهي المبادئ التي بنى عليها نقاد آخر القرن السابع عشر    في فرنسا ، وأوائل القرن الثامن عشر في إنجلترا تفسيرهم وتحليلهم لما نسميه اليوم بـ(الواقع البديل) في العمل الفني ، أي إصرارهم    على ألا يرتبط العمل الفني بالواقع إلا بالمادة المماثلة ، وعلى أن يخلق من داخله عالمًا خاصًا ، لا تنطبق عليه قوانين العالم الخارجي ،       بحيث يمكن التفريق بسهولة بين :
1- (الواقع الخيالي) و(الواقع الحقيقي).
2- (الصدق الفني) و(الصدق الحياتي).
3- (قوانين الحياة ومنطقها) و(قوانين الفن ومنطقه)( ).

الـبـطء الإيـقـاعـــي
وتميل رواية (فتاة من موسكو) إلى البطء الإيقاعي الذي يُناسب طبيعتها التي تعتمد على تقنيات تيار الوعي( ) من وصف ،       وتحليل نفسي ، واستبطان ، وتداع حر ، وخيال تصويري ...           والروائيّ « وحيد السواح » اهتم بالدخول إلى أعماق شخصياته     عبر اهتزازها الدائم بين الشد ، والاسترخاء ، وفوران الجسد ، والتطلع إلى مثالية الروح ، فنرى البطلة « تينا » في الفصل الثالث عشر (تتأمل وجه   « باروسكي » ، تسقط في عينيه الخضراوين، وشعره الذهبي ، فتشعر بالنشوة وهو يذوب رقة بين يديها . قال : لماذا لا تتكلمين ؟ .. نظراتك الغامضة تحيرني . قالت في هدوء : إنني أشعر بك ، وأعلم أنك تحبني ولكن اعطني وقتـًا للتفكير، وسوف أرد عليك العام القادم ./ باروسكي منزعجًا : العام القادم ! . / « تينا » (في ضحكة رنانة): العام القادم بعد دقائق « باروسكي »!. / ليل موسكو ينتصف تمامًا فتطفئ الأنوار، وتمر اللحظات المظلمة ؛ فترتدي القبلات أثواب الظلام حتى ترتوي الشفاة العاشقة ، بينما      « تينا » و« باروسكي » ممتدان في قبلة عيد الميلاد).
بـنـيــة الشخصيـات الـروائـيــة
استطاع الأديب « وحيد السواح » إتقان شكل الرواية القصيرة ، الخالية من اللغو ، والرطانة ، والاستعراض البلاغي ، وجمع الشكل الروائي عنده بين اتساع وامتداد موضوع الرواية ، وإحكام ودقة القصة القصيرة . و العمل الروائي هاهنا يتمثل في الحُب العميق للجمال المطلق ، والروح الإنسانية الرحبة ، وبهاء الحُلم ونضارته ،       حيث لا يغيب عنه ألقه . وفي الرواية عناية ببنية الشخصية .  
و(بنية الشخصية) مصطلح يستعمله الناقد للدلالة على تصور افتراضي تفسيري ، مستنتج من بعض المظاهر السلوكية ، التي تكشف عن مجموعة من الاتجاهات والدوافع ، المستنتجة من تصرفات : البطل ، أو الشخصية الموجودة في نص القصة أو الرواية ، التي تتميز بتطورها خلال تطور الزمن فيهما ( ) .
و(مفهوم الشخصية في الرواية) مفهوم متعدد الأبعاد ، ينتمي بُعد منه إلى علم النفس ، وآخر إلى علم الاجتماع ، وربما ينتمي في ثالث    إلى اللغة ، ومن أجل هذا التعدد ؛ فإنها تكون عصية على التحليل ،      وقد دفع هذا « توماشفسكي » إلى القول بأن : (البطل ليس ضروريًا ؛ فبإمكان القصة كنسق من الحوافز أن تستغني استغناء تامًا عن البطل وسماته المحددة ؛ لكن « تزفيتان تودوروف » يرد عليه بأن هذا التأكيد يبدو لنا مع ذلك متعلقـًا أكثر منها بالأدب الغربيّ الكلاسيكيّ( ). والشخصية الروائية باختصار مجموعة أفعال تدخل في علاقات متعددة مع غيرها من الشخصيات ، والشخصية تكون رئيسة بحسب حجم وجودها الكبير داخل الرواية وهي ثانوية ؛ لأن وجودها محدود ، وكل الشخصيات لها أدوار لا يمكن الاستغناء عنها ( ).
 وتحتوي رواية : (فتاة من موسكو) على عدد من الشخصيات ، توغل المؤلف بمشرطه الطبي عميقـًا في نسيجها البدنيّ والنفسيّ ، حتى مسّ أخفى الأعصاب ، ووصل إلى أبعد الآماد والأركان ،     ومن هذه الشخصيات :
أحمد : ضابط بالجيش - فيفي :(ابنة خالته)- خالته :(أم فيفي) - مجاهد :(قهوجي)- العم عبد الله :(بركة الحي)- الرائد صلاح : (صديق أحمد في سلاح المشاة)- تينا :(مهندسة بالسد العالي) ، تصاب في حادث سيارة ، وقد مات جدها « تشيكوف » وأبوها        « أنطون » بقصف طائرات الألمان في الحرب - إلجا - ماريا - وكسندرا :(التي تـُخطـب لـ« فلاديمير »)- عمر صبري:(الرائد)- محمد عمر - صلاح فايز- بوشكين :(المستشار العسكري)-     محروس عبد الغفار:(الموظف ببنك التسليف الزراعي)... ومن خلال هذه الشخصيات قدم « وحيد السواح » تحليله لمشاعر النفس في صور متتابعة يؤدي بعضها إلى بعض ، ويلقي بعضها بظلاله على بعض مثلما يفعل الشاعر الذي يبني قصيدته الحديثة على أساس التداخل والتشابك ، والترابط ؛ سعيًا لإخراج ما يسمى بالانطباع الموحد أي الصورة الواحدة التي تتمازج فيها الخطوط والألوان ، ولعل الروائي « وحيد السواح » قد اعتمد موهبته الشعرية في       هذا الصدد ، مما يدفع القارئ إزاء هذا الأسلوب ( ) إلى العودة إليه المَرة بعد المَرة ؛ ليكتشف خباياه ، ويحاول متابعة خيوطه المنسوجة ببراعة متناهية .
الـحــــــوار
ينتشر الحوار بشكل لافت في الرواية ، وهو حوار قادر على توليد الدلالات ، وإرسال إشعاعاتها في شتى الاتجاهات في ردهات    الذاكرة ، ويحضُر الحوار بنوعيه :(المباشر، والباطني)؛ فيسهم في كسر خطيّة السرد ، وفي الحد من اندفاعه وهديره ، ويُعمق الإيهام بالواقعية والصدق ، ومن خلال حديث الشخصية عن نفسها بنفسها دون واسطة ، إضافة إلى مهمة الكشف عن المشاعر الباطنية ، والمواقف الشخصية . تقول البطلة « تينا »(في الفصل الخامس) وهي تطلب من صديقتها كتابة رسالة إلى البطل « أحمد » : أرجوك كسندرا اكتبي لي الرسالة .. كسندرا تحدج فيها قائلة : انت اتجننتِي كفاية أوهام ، اصحي من أحلامك المستحيلة - أرجوك كسندرا ، أرجوك .. صوتها يتردد بنشيج البكاء . ونلاحظ أن الحوار لا يحتل مساحات كبيرة حتى لا يطغى على السرد ، أو يقربه من النص المسرحي الدرامي ، ويبعده عن النص السردي القصصي ، ذلك لأن لغة السرد أهم عنصر في الكتابة السردية ، فالمبدع يبدع بداخلها وبواسطتها . ولغة الرواية تشكيل خاص للكلام ، ونسج إبداعي ، وموطن الاهتمام في أي عمل سردي ( ). وقد انصبت الدراسات الجديدة في علم اللغة على دراسة العلاقة لما يدور فيما بين المتحاورين والمستمع ، ثم إقامة علاقة جديدة بين المتحدث الفرد ، حتى وإن لم يكن يتصور أنه (يخاطب) أحدًا ؛ فأصبح وجود المستمع الصامت شبيهًا بوجود المشارك الصامت في الحوار ، أي أن أحد معاني (الخطاب)(هو اللغة باعتبارها حوارًا بين الكاتب والقارئ ،    أو بين أفكار الكاتب وأفكار القارئ ، أو بين ما يمثله الكاتب اجتماعيًا ، أو سياسيًا ، أو ثقافيًا ، وما يمثله القارئ).
الحــدث الـذهـنــي
العمل الأدبي مُشبع بانفعالات الأديب ، ومشاعره التي عبّر عنها باللغة ، ولا يستطيع الناقد حيالها إلا تمثل دلالاتها ، كما تنطبع بنفسه ، ومن ثم تتعدد الاجتهادات حول النص بتعدد أشكال تأثر النُقاد به ، أي بحسب ما يثيره في نفس كل ناقد ، وإن كان هذا لا يَعني تغير العمل نفسه في كل مرة بتعدد أشكال تأثر النقاد . وموقف الناقد ونشاطه كله متأثر بالضرورة بمجموعة المعايير التي تتحكم بطريقة تلقيه .
والعمل الفني بدوره مثير منحاز على عالم الناقد الخاص من المشاعر والانفعالات ، والرؤى ، ومن ثم فإن العملية التي يمارسها الناقد حينئذٍ تعني أنه اطمأن إلى أن معاييره الخاصة متحققة بالعمل الأدبي الذي ينقده ، وإلا لما استجاب له ولا تفاعل معه ( ).
والأحداث في رواية (فتاة من موسكو) تتميز بهيمنة الحدث (الذهني النفسي والتاريخي) على الحدث (المادي الحركي)، نظرًا لارتباط هذه الأحداث الذهنية بالحالة الشعورية ، وبالعالم الذهني ، والنفسي ، والشخصيات الفاعلة ، ففي الفصل الأول :(تَذَكَّرَت أباها « أنطون » عندما كان يعود حاملا ً السلاح وهو في المقاومة ضد جيوش الألمان)، وفي (الفصل الثالث): (تَذَكَّرَت لقاءاتها بالنقيب « أحمد » في النادي الروسي) و(يشعل سيجارة عائدًا بذكرياته عندما انتقل إلي النادي الروسي بعد عودته من اليمن). و(يتذكر فقط ماريا وهي تصرخ)، و(كانت تشعر بما يدور في نفسه)، و(أدركت « تينا » أن مصر قامت بعملية فدائية)، وفي(الفصل الخامس) :(تذكرت مأساة الغزو الألماني( ) لبلدها ، وموت أبيها في إحدى الغارات الألمانية).. ومثل هذا كثير في الرواية مما يعني الاتكاء على تيار الشعور ،أي على الأفكار التي تطوف برأس الأبطال ، ومن نافلة القول أن المكان في الرواية ذو طابع ترانزيت ، والبلدة التي تغيب عنها البطلة لها حضورها الدائم في النص بشكل لافت .
والعمل في مجمله صورة مركزة لواقعنا الاجتماعيّ والسياسيّ  في فترة تاريخية معينة ، وقد اختلفت مساحة السرد والحوار في الرواية باختلاف المواقف والأحداث ، وأدوار الشخصيات وعمقها ، وعلاقاتها بعضها مع بعض .
ولقد سررت بصحبتي لهذه الرواية التي أثارت شجونـًا ومشاعر كامنة في النفس ، ومن هنا فإني أزجي التحايا لصاحب هذه الرواية ،  وله منا كل حب وود وتقدير . 