4 - المـســرحـــيــــــة
مقـدمـة في المـسـرحـيـــة .
« مـحـمـد خـلـيـل » ، و : (ذئـــــــاب بــنـــي مــــروان) .
1 - مقدمــة في المسـرحـيـــة .
المسرحية مجموعة من الأفعال المترابطة التي يستدعي بعضها بعضًا . وتتخلق تخلقـًا عضويًا يفضي إلى نهاية ما , وتتجسد هذه الأفعال في شخوص يتحركون على المسرح , ويُطورون الحدث مِن خلال الحوار المتبادل , وليس مِن خلال السرد الخارجي , أو الحكاية على لسان المؤلف ، وتتطلب المسرحية عُقدة أو مجموعة من العُقد الثانوية التي ترفد العُقدة الأساس : ويأخذ بعض هذه العُقد برقاب بعض , حتى تصل برمتها إلى ذروة التأزم , ثم تفضي إلى الانفراج , وقد ظلت الوحدات الأرسطية تسيطر على الخلق المسرحي منذ فجر التاريخ المسرحي حتى عصور النهضة الحديثة , فوضع الفنانون المبدعون أمامهم وحدات : (الزمان ، المكان ، الفعل) كحتمية مسرحية لا يمكن الخروج عليها . ثم تحرروا من هذه التقاليد الكلاسيكية , واصطنعوا لأنفسهم تقاليد أخرى تقترب أو تبتعد عن التقاليد القديمة .
ومهما يكن من شيء فقد ظلت المسرحية كإبداع أدبي مرتبطة , حتى في ذهن مؤلفها بالمسرح . وظل (المسرح) كامنـًا في واعية الكاتب ولا واعيته معًا ، وهو يَختار موضوعه ، ويُعالج مادته ، ويُؤسس تكنيكه . فالمُؤلف الذي يكتب مسرحية إنما يعيش بالقوة أو بالفعل على خشبة المسرح , وفي دائرة هذا التشكيل الذي يتعانق في تجسيده الممثل والنص والإضاءة والديكور والملابس والجمهور. وهذا هو ما يجعل من المسرح نوعًا فنيًا مختلفـًا عن غيره من الأنواع : (القصصية ، والروائية ، والملحمية ، و ...).
وفي البناء المسرحي تختلف الرؤية بين (التقليد والابتداع), و(الواقعية والرمزية), و(الحضور والتاريخ).. ويختلف التكنيك بين تكثير الفصول وتكثيفها , و(منطقية البناء ، ولا منطقيته)، و(نمطية الشخوص ، وتحريرها).. وتختلف طبيعة الموضوع والصراع بين التنامي والجمود , و(البشرية ، واللابشرية).. ويختلف الحوار والحركة بين : (الذهنية والجدلية)، و(الدينامية والسكون), و(التسطيح والتعميق). أما في المنحنى التعبيريّ فللمسرح طوابع يشترط حلولها في النص ، حتى يمكن أن يكون قابلا ً للحلول على خشبة المسرح .
هذه الطوابع تتمثل في ضرورة التركيز, وحتمية الإيجاز, وتطويع اللغة لطبائع الشخوص ، وتطبيع المستوى الفكري , وإيحائية اللغة , وصفاء العبارة , وتوتر الإيقاع ، وتدامج الفكر والفعل .
من هذا المنظور الفني يمكن أن نحاكم الظاهرة المسرحية , وأن نضيف هذا السؤال الصميمي كقانون أوليّ : ماذا قالت المسرحية للحياة والأحياء ؟ ، وكيف قالته ؟ ، لأن السؤال الصميمي يحدد الغاية والوسيلة من أي عمل مسرحي معًا , والغاية هنا هي ما يريد الكاتب توصيله إلى الجمهور, والوسيلة هنا هي أدوات الكاتب وتقنيّاته . والغاية هي الموضوع ميتافيزيقيًا وإنسانيًا , ومثاليًا أو واقعيًا , رجعيًا أو تقدميًا , طبقيًا أو شعبيًا .. والوسيلة هي الفنية , كقاعدة الوحدات الأرسطية , أو قاعدة فصل الأنواع , والصراع الصاعد , والشخصيات , والحوار, والإثارة .
وينبغي للحركة النقدية دائمًا أن تفرق في تناولها النقدي بين طبيعة المسرح (الحركي)، وطبيعة المسرح (الذهنيّ) .
فالأول : يرتبط بـ(الممثلين ، والمسرح ، والجمهور)، أي بالحركة حين تقع بعدًا ثالثـًا بعد بعدي الحوار والصراع .
والثاني : يرتبط بـ(الفكر ، والنفس ، والخيال)، أي بالتأمل الذهني الذي يَعيش الحركة ، وإن كان لا يشاهدها ( ). إن أي حديث عن المسرح عامة , وعن المسرح العربي خاصة لهو في حقيقة الأمر حديث عن الحرية التي ترتبط بفكرة الخلق أو الإبداع .
وفي الفكر الماركسيّ نرى مهمة الإنسان تنحصر في القيام بعملية إبداعية مستمرة - ألا وهي عملية التحرر- فإن الإبداع الفني في شتى المجالات , يُصبح بصورة منطقية أبلغ تجسيد للحرية , وكذلك فإن الظاهرة المسرحية الحقيقية في جوهرِها , وبحكم طبيعتها الجماعية ممارسة لفعل التحرر على مستوى الجماعة ( ) .
وقد تخصص المخرج « سعد أردش »( ) (21/10/1924م - 13/6/2008م) في إخراج مسرحيات الكاتب والشاعر المسرحي الألماني « برتولت برخت »( ) (1898م - 1956م) ، وترك« أردش » (45 عملا ً مسرحيًا)( ).
بينما استلهم الكاتب المسرحي« ألفريد فرج »( )(1929م - 2005م) التراث في كتابة مسرحياته ، ففي مسرحيته (سقوط فرعون) يدور العمل حول الملك « إخناتون » (أمنحتب الرابع) بالقرنالرابع عشر ق . م الذي فجر ثورة التوحيد ، وقام بالدعوة لديانة (آتون) أو قرص الشمس ، بديلا ًعن ديانة التعدد ، وسقط لتعلقه بحلم السلام المطلق ، وكانت أول وآخر مسرحية يكتبها « ألفريد فرج » مستلهمًا فيها التراث الفرعونيّ ، ورغم ديانته ، لم يكتُبْ مسرحًا يرتكز على التراث القبطيّ( ).
وكتابة المسرحية التاريخية لا يُقصد بها علم التاريخ ، فلا أحد في المسرح يَكتـُب تاريخًا من أجل التاريخ ؛ لأن تلك هي طبيعة المؤرخين وليس الفنانين . والتاريخ في المسرح يكتب ويعالج بسبب العَلاقة القائمة بينه وبين الواقع ، وقد يكون متاحًا للكاتِب أن يكتب عن الواقع مباشرةً ؛ ولكنه يختار الكتابة من خلال التاريخ ؛ لأن التاريخ يمنح عمله امتدادًا وبعدًا ثريًا ، قد لا يكون متوافرًا لو أنه عالج الواقع منفصلاً عن جذوره التاريخية ( ).
وقد أسهم « ألفريد فرج »(1929م - 2005م)، وجيله : (نعمان عاشور(1918م - 1987م) - ميخائيل رومان - يوسف إدريس - لطفي الخولي - عبد الرحمن الشرقاوي(1920م - 1987م)- سعد الدين وهبة (1925م - 1997م)) في صُنع نهضة مسرحية غير مسبوقة خلال الستينيات من القرن العشرين( ).
ومن نافلة القول أن المسرح يرتبط أساسًا بالإنسان في محاولته إثبات ذاته , فإذا لم يكن مرتبطـًا بالعدالة , وبالإنسان , وبالمفاهيم الإنسانية , يصبح المسرح شكلا ً ترفيهيًا , ويفقد خصوصيته .
وفي هذا الصراع الكوني الذي يحدث في العالم لابد أن يكون المسرح فاعلاً في الحياة , فنحن نرى المجتمعات في صراع دامٍ عالميًا , منها مجتمعات قوية ، وأخرى ضعيفة , ومجتمعات تصنع ، وأخرى تستهلك ؛ لهذا كان من واجب المسرح التنبيه إلى الخطر ، فيقول الحقيقة حتى لا يصبح متهمًا ( ).
(1) مـحـمـد خــليــل ، و : (ذئــاب بـنـي مــروان)
إطــــــلالــــــــــة
(ذئاب بني مروان) مسرحية ذات ثلاثة فصول من إبداع الأديب « محمد خليل »( )، صدرت عن هيئة قصور الثقافة ، ثقافة الدقهلية ، ضمن سلسلة إبداعات أدباء الدقهلية رقم (35) ، ط 2002م ، وتقع في (103صفحة) من القطع الصغير . والمسرحية تنتمي إلى المسرح التاريخيّ ، حيث يعود المبدع إلى مواقف ، أو فترات ، أو شخصيات تاريخية ، كي يعالجها معالجة فنية معاصرة بغرض الوقوف أمام أشياء كثيرة بين فصول المسرحية ومشاهدها ، حيث لا يلجأ المبدع إلى استخدام التاريخ ، أو الحدث التاريخي ، أو الأسطورة بغير قصد معاصر ، بل إن التاريخ في كل الأحيان يكون أداة أو قناعًا يوصل المبدع عبره الكثير من آرائه حول قضايا معاصرة ، أو شديدة المعاصرة باستخدام لعبة الفن والأدب كحيلة أساس ، ولقد لجأ لذلك الأسلوب كُتاب كبار مثل :
« توفيق الحكيم » (1898م - 1987م) : في مسرحياته : (أهل الكهف) ، و(السلطان الحائر)، ... وغيرهما من أعمال .
كما لجأ إليه « ألفريد فرج »(1929م - 2005م) : في : (سُليمان الحلبي)، و(الزير سالم).
و« محمود دياب » : في : (باب الفتوح) .
و« عبد الرحمن الشرقاوي »(1920م - 1987م) : في : (الحسين ثائرًا وشهيدًا).
وكل هذه الأعمال تؤكد أهمية البنية التاريخية لدى كـُتـّاب الأدب والمسرح على وجه الخصوص( ) ، وليس غريبًا وسط كل ذلك أن يأتي المبدع « محمد خليل » ليكرر تلك المعالجة الفنية / التاريخية ، أو التاريخية / الفنية في مسرحية :(ذئاب بني مروان) ، فقد قصد المؤلف أن يتخذ من التاريخ ، والحقائق التاريخية ، مادة حية - بعد التثبت من صحتها ، وصدق روايتها - ليعين المتلقي على فهم الأحداث التي تجرى في الدولة الإسلامية الأموية ، حتى جاء الخليفة العادل «عمر بن عبد العزيز »( )(63هـ - 101هـ/682م - 720م) فأوقف الجور ، وأعلن أن الله (إنما بعث محمدًا هاديًا ، ولم يبعثه جابيًا)، إذ كان الأمويون في المشرق يجبون الجزية في البلاد التي فتحها المسلمون حتى ممن أسلم من تلك البلاد( ). ولقد عم الترف المادي ، والمعنوي معظم البلاد الإسلامية حتى (الحجاز) وأهله ، حيث أغدق عليهم خلفاء (بني أمية)( ) المال ، وأجابوا دعوة التطور ، وأجزلوا لهم العطاء ؛ ليرضوا عن سياستهم ، وهذا ما فعله « معاوية بن أبي سفيان »( )(ت 60 هـ /680 م) ، ولقد أعاد« عمر بن عبد العزيز » إلى (الحجاز) ازدهاره ، ومجده في السنوات القليلة التي كان عاملاً فيها على تلك البلاد ، التي تكون فيها أول مجتمع عربيّ إسلاميّ ، وبدأت حركة التأليف الدينيّ ، كما بدأت حركة للترجمة في عهد «عمر بن عبد العزيز » الخليفة الذي كان يحاسب عماله بعد أن يحاسب نفسه خوفـًا من التقصير في مهام الإمارة والولاية على المسلمين ، فقد قال ذات مرة لأحد عماله : (إذا دعتك قدرتك على الناس إلى ظلمهم ، فاذكر قدرة الله عليك) .
لقد كان « عمر بن عبد العزيز » حريصًا دائمًا على رد المظالم لأهلها حتى لو كان من في يده المظلمة أحد أمراء (ذئاب) بني مروان السابقين ، وللأمانة التاريخية فإن الإمام المعتزليّ « يزيد بن الوليد » (86 هـ - 126هـ / 705م - 744م)- وهو من أمراء بني أمية الذين اعتنقوا مذهب الاعتزال - كان عادلا ً أيضًا ، قام بالثورة ضد (بني أمية) ، وهي أولى الثورات التي تفجرت ضدهم في عاصمتهم (دمشق)، ومعقل سلطانهم التقليدي بين أهل (الشام)، وانتهت أحداث ثورته بمقتل الخليفة الأموي الماجن « الوليد بن يزيد » (88 هـ - 126هـ / 707م - 744م) بعد أن حاصرته في قصره القوات الثائرة التي زحفت إلى (دمشق) من المناطق المحيطة بها ، وبعد البيعة لـ « يزيد بن الوليد » (126 هـ / 744م) أعلن في الناس العودة إلى الخلافة بالشورى ، وحق الناس في خلع الإمام ، وفي العهد بالإمامة للأصلح لها ، كما أعلن العدل بين الناس ، مسلمين وغير مسلمين ، (حتى يكون أقصاهم كأدناهم ، وحتى تستدر المعيشة بين المسلمين) ، ولقد استمرتهذه الثورة - بعد نجاحها - حتى وفاة خليفتها « يزيد بن الوليد » عندما انقض عليها المتربصون بها من أمراء (بني أمية) بقيادة « مروان بن محمد بن مروان » الذي حكم (127 هـ - 132 هـ / 742م - 749م) ، وهو آخر الخلفاء (الأمويين) . ولقد كان تقدير المعتزلة ( ) لـ« يزيد بن الوليد » ولإمامته تقديرًا عظيمًا ، فهو الوحيد من خلفاء (بني أمية) الذي تولى الخلافة بالبيعة والشورى ، لا بالتغلب ، أو القهر ، أو الميراث ، ومن هنا فضلوه حتى على «عمر بن عبد العزيز » . وهذا الأمير المعتزلي أنقص مخصصات (بني أمية) ، وأعطيات جيش (الشام) الأموي الذي كانت له الامتيازات منذ تأسيس الدولة (الأموية) ، ومن هنا لُقب بـ(الناقص)، وسار في الناس سيرة عادلة فوصف بـ(الكامل) حتى قيل : (الناقص والأشج أعدلا بني مروان)، حيث قرن علماء النحو بين « يزيد بن الوليد » ، و«عمر بن عبد العزيز » ( ) .
المـاضـي والحـاضـــر
اختار « محمد خليل » الفترة التي حكم فيها « عمر بن عبد العزيز »، فسلّط الأضواء على هذه الفترة التي واجه فيها الخليفة العادل (ذئاب بني مروان) وهي مواجهة بين (عدله وجورهم)، و(حبه وبغضهم)، والمسرحية تتميز بالوعي الفني الذي امتزج بالمضمون الفكري الحافل بالتناقضات البشرية ، والمشكلات الإنسانية ، والقضايا الحيوية ، وكل هذه العناصر انصهرت في بوتقة واحدة حيث تتناغم التناقضات ، وتلتحم الصراعات في وحدة عضوية لا تعرف الانفصام ، ولغة مسرحية واعية تناسب ما يدور من أحداث ، وما يتم طرحه من أفكار ، فصاحب المسرحية على معرفة قوية بتقنيات الكتابة المسرحية ، يوظفها بحرفية ، مستنزفا طاقاتها ، مقلبا إياها على كافة وجوهها ليقدم الجديد المفيد في عبارة هي كالسحر أو أدق ، بل كالماء أو أرق ، وفي أوصاف دقيقة ، كالمخدرة الرشيقة ، أو الروضة الأنيقة التي تحمل بشارة فنه إلى دفاتره ، التي أنجبت (ذئاب بني مروان)، تلك المسرحية التي لم يأت اختيارنا لها من فراغ ، فثمة شيء مُغاير ، طموح ، جديد ، فريد يسترعي الانتباه ، ويستوقف الناقد والمُتلقي معًا ، لهذا رحنا نغذي النفس ببهجة عمله ، ونمزج القريحة بِرقتِه ، ونشرح الصدر بقراءته ، فالوحدة الفنية تنبع من اتساق نظرة المبدع إلى التاريخ ، والكون ، والعدل ، والأحياء ، وبهذا الاتساق عزف « محمد خليل » النغمة الأساس ، التي تفرعت منها تنويعات متعددة خصبة ، منحت العمل مذاقه المتميز ، وشخصيته المتبلورة ، وبالتالي لم يعتور الشكل الفني عنده ثغرات ، أو نتوءات ، أو تناقضات تضعف من حيويته ، وقيمته الجمالية والفكرية التي تحمل الإشارة إلى المتلقي بما يحدث في أعماق الزمن ، والعمل من جهد فنيّ ، وإنسانيّ يَتسم بالجودة والسلاسة ، والانتقاء ، والبعد عن السوقية في التعبير ، والغموض في الأسلوب ، لهذا ترقرق ماء الجمال في عمله ، وسكن السحر في ألحاظ ألفاظه وتعبيراته التي يصبو إليها القلب ، لأنها أتاحت له فهم الماضي ، أو بتعبير أدق : فهم الحاضر للماضي بما فيه من أهواء وتحيزات ، واتجاهات يصونها الحاضر المعاش ، والماضي بخفاياه ودواخله .
ومن هنا فالمسرحية ترتفع بصاحبها إلى مكانة مرموقة في عالم المسرح ، فالأديب « محمد خليل » في دنيا الأدب بحر براعة ، ورأس صناعة ، وزعيم جماعة ، وواسطة عقد رائع ، له فضل على الأدب سابغ منذ روايته عندما يأتي الليل(1972م)، مرورًا بمجموعاته القصصية : رسالة تحت الأحذية (1976م)- الشمس لا تغيب كثيرًا (1987م)- سلسلة الإبداع القصصي (1987م) - الطواويس (1987م)- تبات ونبات (1988م)- مملكة الأرانب (1989م)- القصة في المنصورة (1993م)- نونوات النساء والقطط (1994م)- دعوة للحزن والضحك (1998م)- نصوص قصصية (2000م)، حتى " ذئاب بني مروان "(2002م).
عـناصـر العـمــــل
إن المسرحية يجب أن تقدر إما باعتبارها عملا ًفنيًا قائمًا بذاته ، أو باعتبارها إنتاجًا مسرحيًا تامًا يُعرض أمام الجمهور ، وهناك معايير مختلفة تتعلق بالحكم على المسرحية باعتبارها عملا ً أدبيًا بصرف النظر عن إخراجها المسرحيّ ، وتتضمن عناصر العمل المسرحيّ : (الغاية ، والموضوع ، والحبكة ، والشخصية ، والأصول الفنية)( ).
أما إذا أردنا أن نقيم عرضًا مسرحيًا لـ(ذئاب بني مروان) أمام الجمهور ، فإننا نضيف إلى ما تقدم عناصر إضافية هي :(التمثيل ، والإخراج ، والجمهور)، ومادمنا نتحدث عن (ذئاب بني مروان) كعمل أدبيّ ، فإنه من الضروري الإشارة إلى أهمية العرض المسرحيّ الجوهرية ، فمن النقاد من يرى أن :(التجسيد وحده هو حقيقة العمل المسرحي ، وأن جمال المسرح يتركز في العرض أمام الناس ، وليس في تخيل هذا العرض على نحو من الأنحاء): (في الذهن مثلا ً ، أو القراءة في كتاب)( ) ، ومن النـُقاد مَن يعطى الكلمة في النص المسرحي أهميتها ، لأن دور المسرح بالغ الاتساع ، و(دور النص في المسرح الدرامي هو دور الكلمة ، الكلمة يستخدمها كل منا في وقت يحدده لنفسه ، ويوصل فيه للآخرين ما يسجله ذكاؤه ، فهي تعبر تمامًا وبشكل مباشر عن أفكارنا ، وهي أيضًا تعبر- ولكن بشكل غير مباشر- عن عواطفنا ، ومشاعرنا ، في حدود ما يقوم به ذكاؤنا من تحليل لهذه العواطف ، والمشاعر . فذكاؤنا حين لا يستطيع أن يقدم لحياتنا الحسية نسخة كلية متكاملة في آن واحد ، يلجأ إلى تفريقها في مفردات لغوية ، أي في عناصر متعاقبة من الانعكاسات الذهنية ، كما يفرق المنشور شعاع الشمس). إن مجال الكلمة بالغ الاتساع ، مادام هذا المجال يشمل كل الذكاء ، وكل ما يستطيع الإنسان أن يفهمه ، ويحدده ، ولكن فيما وراء ذلك ، فإن كل ما يفلت من التحليل يستعصي التعبير عنه بالكلام ، وفي هذا كتب « ليون دوديه » Leon Daudet (1868م - 1942م): (إننا نصل بسرعة جدًا إلى نهاية الكلمات ، فالفرد الواسع المعرفة ، المتعدد المواهب - حتى لو كان متمكنـًا من كل معاجم اللغة - لا يترجم إلا (1 %) تقريبًا مما يستشعره ، ومما يتأمله . إن الأكثر أهمية ، والأكثر إمتاعًا ، يهرب من سلسلة المفردات ، كما يهرب الماء من الأصابع) . فمن حواسنا إلى عالمنا الروحي ، هناك ممرات خفية لا تتصل بطريق ذكائنا ، والمتعة المباشرة الفورية التي نحسها في مواجهة سماء رائعة ، أو منظر خلوي جميل ، أو جسد فتان . إننا نحسها مصفاة أمام اللوحة الزيتية ، أو قطعة النحت التي تستلهم هذا أو ذاك ، ودون أن تكون أقل فورية ، أو أقل مباشرة ، ولكننا لا نجد شيئـًا من ذلك في التعليقات الأدبية التي يمكن أن يثيرها العمل الفني . وهكذا تتداخل في الدراما وسائل التعبير : تشكيلية ، وملونة ، ومضاءة ، ثم كل الوسائل الأخرى من : أداء ، وتعبير صامت (بانتوميم)( ) ، وإيقاع ، وأصوات مؤثرة ، وموسيقى ... الخ ، ومن هنا يمكن أن نشرع في تفهم مهمة كل من : المخرج ، والممثل ، وغيرها من العناصر المشاركة في صياغة العرض)( ) . ومن هذا العرض التحليلي لرجل المسرح الفرنسيّ « جاستون باتي »( ) تتضح أهمية العرض المسرحي وليس كنص مكتوب( ) كما تتضح أهمية الدراما في وسائل التعبير( ).
الغــايـــــــة
الغاية في كل مسرحية هي الترفيه ، كما أن الهدف هو رواية قصة ، ولكن وراء الترفيه والقصة فكرة غالبًا هي السبب في كتابة المسرحية . والأديب « محمد خليل » في مسرحيته يتوقف عند أزمة الفرد إزاء سلطة مستبدة في التاريخ ؛ لإعادة النظر في الكثير من المسلمات الراسخة ، والمسرحية تعكس بشكل موضوعيّ موقف المؤلف الفكريّ ، وقضية الربط بين : (المؤلف / الكاتب ، والمكتوب) تعتبر قضية تقنية دالة في هذا السياق ، كما أن هذا الربط يعني الكشف عن عناصر اللعبة المسرحية ، وعرض المتناقضات الاجتماعية والإنسانية . فالنص المسرحي ليس معطى ثابتـًا واحدًا في الزمان ، بل إن له تاريخيته المتغيرة ، والمتنامية ، وفي هذه التاريخية يمكن تمييز لحظة أولى هي ظهور النص المسرحي في فترة محددة ، هذه اللحظة يمكن تسميتها بالإبداع الأول ، بعدها تتعاقب لحظات تالية ، في كل منها تنبثق علاقة جديدة ومغايرة مع النص ، لأن كل عصر يتلمس مشكلاته ، ويعكس نفسه في إعادة قراءة (النص) على ضوء المعطيات ، والمتغيرات التاريخية . هذه القراءات المتعددة التي تتوالى مختلفة عبر العصور هي بمثابة (الإبداعات التالية) حيث تتعدد طرق القراءة الجديدة ، فتبدأ من الرؤية الإخراجية ، وتنتهي إلى التدخل في النص ، حذفـًا أو تغييرًا ، وما من مسرحية إلا ويؤطرها مكان تنبع منه ، وتحمل في ثناياها خصوصية هذا المكان ومناخه ، وهذه الميزة لا تقلص أهمية المسرحية ، بل تؤصلها أكثر ، لكن ثمة صعوبة هنا تنشأ حين ترحل المسرحية لتقدم في بيئات أخرى - غير عربية طبعًا - فقد تقف الخصوصية البيئية للمسرحية حائلاً يحد من فعاليتها ، وهذا طبيعي ، مادام بعض فعل المسرح هو أن يعكس لمتفرجيه بيئتهم ، وأن يتفاعل مع المزاج الاجتماعيّ السائد كي يُثري شحنته الاحتفالية والتعليمية معًا ، ولاشك أن غربة (المكان) والعادات ، وتكوّن الشخصيات في إطار بيئة معينة ، وحتى الأسماء كلها عوامل تمتص جزءًا من استجابة (المتلقي / المتفرج) وتحد من تفاعله المنشود ، والإبداعات المتغيرة للنص الواحد وفق تغير المرحلة الزمنية (التاريخية) ، واختلاف البيئة لا يمثلها ويفسرها إلا طموح المسرحي ، كما أن فعالية المسرح تضعف إذا لم يعرف كاتب النص كيف يحاور زمنه ، فالهاجس الأول والجوهري هو تحقيق بعض الفعالية في التاريخ و الواقع على السواء ( ).
المـوضــــوع
إن كل مسرحية لها موضوعها ، ولا يعني الموضوع الجيد بالضرورة أن المسرحية جيدة ، وإن كانت المسرحية العظيمة تقوم على موضوع عظيم ، وموضوع (ذئاب بني مروان)هو تحليل طبيعة السلطة وكيفية عملها ، فالخليفة العادل « عمر بن عبد العـزيز » لما ولي السُلطة جعل لا يدع شيئـًا مما كان في يده ، ويد أهل بيته من المظالم إلا ردها مظلمة مظلمة ، لهذا يكتب إليه « عمر بن الوليد بن عبد العزيز » رسالة تفسر عمل الخليفة حيث يقول :(إنك أزريت على من كان قبلك من الخلفاء ، وعبت عليهم ، وسرت بغير سيرتهم بغضًا لهم وشنآنـًا لمن بعدهم من أولادهم ، وقطعت ما أمر الله به أن يوصل ، إذ عمدت إلى أموال « قريش » ومواريثهم فأدخلتها بيت المال جورًا وعدوانًا . يا « ابن عبد العزيز » اتق الله وراقبه إن شططت ، فلم تطمئن على منبرك حتى خصصت أهل قرابتك بالظلم والجور . فوالذي خص محمدًا بما خصه به ، لقد ازددت عن الله بعدًا في ولايتك هذه ، إذ زعمت أنها عليك بلاء ، فاعلم بأنك بعين جبار وفي قبضته ، ولن تترك على هذا)( ). وهذا الخطاب ترد بعضعباراته في المسرحية (ص 52) على لسان «عمر بن بنانة » ونقرأ (ص42) حوارًا يدور بين « عمر بن عبد العزيز » وأهله ، فيقول « عمر بن عبد العزيز » :(أعطاكم الخلفاء بلا حق لكم فيما أخذتم ، ولكم به عذاب عظيم). هشام : هذا افتراء .
عمر : لا ... وأقولها مدوية ليسمعها القاصي والداني ، وأصحاب المظالم ... إن ما في أيديكم ملك للمسلمين ، ولابد أن يعود لبيت المال . يزيد : إن ما في أيدينا ملك لنا ولن يأخذه أحد منا .
عمر : ما في أيديكم أقدره بنصف أموال الأمة أو ثلثيها ، وهذا حرام ، حرام يا "يزيد" وحسبك استهتارًا). وفي (ص 48) يقول « عمر »:(إن هؤلاء الناس غرتهم الحياة الدنيا وجعلتهم ينسون الغاية من الحياة). وفي (ص50) يقول « عمر » :(وكيف أستريح وهنالك من قومي من ينهشون جسدي ، وأجساد مساكين المسلمين) ، و(ص51) يقول « عمر » :(يا رجاء ... العدل أساس الملك) ويدور الصراع في العمل المسرحي بين العدل والظلم .
الـحـبـكـــة
إذا كانت كل مسرحية تَروى بالضرورة قصة ، وكانت كل رواية تستلزم بالضرورة نوعًا من (الحبكة) ، كان السؤال الذي يتعلق بالحبكة هو : هل هي مقنعة ، ومنطبقة على أمور الحياة ، أم منطبقة على أقل تقدير على نمط الحياة الذي تحاول المسرحية أن تصوره ؟ ، ولكي تكون الحبكة جيدة يجب ألا تكون مبتذلة ، كما يجب أن تكون صادقة ( ) ، وهذا ما نجده في عمل الأديب « محمد خليل » من إيجابيات ، وذلك من أجل تكييف الشكل التراثي مع المتطلبات الاجتماعية بعالمنا الحديث ، دون أن يفقد العمل جذوره ودلالاته الفكرية والعاطفية ، فالعمل ذكرى من ذكريات الماضي وأطيافه ، ورمز محدد جغرافيًا وتاريخيًا ، ومعاناة حقيقية ، وإنجاز حقيقي يفسح لصاحبه مكانة كبيرة في مجال المسرح العربيّ ، فالأديب « محمد خليل » يُدرك حقيقة ذاته ، وحقيقة عمله ، لهذا لم ينغمس في الأوهام التي يتشدّق بها بعض الناس ، أو الأحلام الكاذبة التي تبدو عادية في النهاية ، أو الشعارات الجوفاء التي يرددها الناس كالببغاوات . إن « محمد خليل » من الصدق والوعي بحيث يرى الحياة الحقيقية في صورة العدل الذي يضمنه حكمته ، وصفوةتجاربه ، وجوهر إنسانيته ، في أسلوبه السلس ، الرشيق ، السهل ، الممتنع ، العصري الروح والتناول ، فالظالم عنده إساءته طبيعة ، وإحسانه تكلف ، وهو لا يُقيم في ذلك الجدال ، بل يظهر الحق والاعتدال ، لأن الظالم يزيد مع النعمة لؤمًا ، والعادل لا يزيد مع المحنة إلا كرمًا .
والحبكة في (ذئاب بني مروان) لها تباشير نجح ، ومخايل فتح ، ومنطق فصل ، وللدهر فيها مقاصد ، وللأيام فيها مواعد ، فنحن أمام عمل مسرحيّ يجسد روح الإنسانية المُعذبة ، تلك الروح التي يستحيل فيها الفصل بين (الجاني ، والمجني عليه)، و(القاتل ، والقتيل) ، و(الوحش ، والضحية) ، ومصدر العذاب كله غياب العدل .
والعمل بصفة عامة قرت عيني بوروده ، وشفيت نفسي بوفوده ، قرأته فحكى نسيم الرياض ، وتنفس كنوار الزهر ، فقد تحمل من فنون البر عن صاحبه ، وضروب الفضل منه بما اشتمل عليه من لطائف الكلم وبدائع الحكم ؛ فعمر قلبي ، وغلب فكري ونقدي ، وبهر لبي ، فأنا أوكل بتتبع ما انطوى عليه نفسًا لا ترى الحظ إلا ما اقتنته منه ، ولا تعد الفضل إلا فيما أخذته عنه ، وأمتع بتأمله عينـًا لا تقر إلا بمثله ، مما يصدر عن يده ، ويرد من قريحته ، وأعطيه نظرًا لا يمله ، وطرفـًا لا يطرف دونه ، أجعله مثالاً أرتسمه وأحتذيه على حد تعبير شيخي « أبي الفضل بن العميد »( ) إمام الكُتاب (ت 369)- الذي قيل فيه :(بُدئت الكتابة بـ« عبد الحميد »( ) ، وختمت بـ« ابن العميد ») - ولئن كنت عن تحصيل ما قلته عاجزًا ، وفي تعديل ما ذكرته مقصرًا ، لقد عرفت أنه ما سمعت به من السحر الحلال ، ولهذا فقد عدت إلى قراءته ، أمتع خلقي برونقه ، وأغذي نفسي ببهجته ، وأمزج قريحتي برقته ، فهو عمل يروح ويغدو في خفارته العدل .
الشخصـيـــات
إذا كان الموضوع ، والحبكة ضعيفين ، فكثيرًا ما تستطيع الشخصيات تحسينهما ، أما المسرحية التي تحتوي على موضوع ممتاز ، وحبكة جيدة ، ولكنها ضعيفة الشخصيات ، فإن ذلك من شأنه إضعاف المسرحية ككل على حد تعبير« جلال العشري » صاحب كتاب : (المسرح فن وتاريخ) . والشخصيات الجيدة الصنع في المسرحية هي تلك التي تدب فيها الحياة ، وكأنها كائنات عضوية تسعى وتتحرك ، وهي فضلا ًعن ذلك الشخصيات التي تبدو وكأن لكل منها حياته الخاصة المستقلة استقلالا ً تامًا عن حياة باقي الشخصيات ، بما في ذلك حياة المؤلف نفسه ، وشخصيات (ذئاب بني مروان): الخليفة « سليمان » وزوجه ، و« عمر بن عبد العزيز» ، والأمير « هشام بن عبد الملك » ، ورئيس الشرطة ، و« يزيد » (ولي العهد لعمر)، و« عنبسة » (صديق عمر)، و«مزاحم » (مولاه)، و« عبد الملك »(ابنه) ، و« فاطمة » (زوجه)، و« بلال » و« ابن المغيرة » (من المقربين)، و« درهم » (غلام عمر)، والخادم (قاتل عمر بن عبد العزيز)...
والعديد من الشخصيات بالمسرحية تبدو وكأنها مخلوقات بشرية حقيقية ، وأقوالها تبدو كأنها منطقية ، وأعمالها مقنعة ، وهي شخصيات مبررة تخضع للأصول الفنية ( ) ، وقد أدرك صاحب (ذئاب بني مروان) بحسه الذكيّ ، وخبرته الإنسانية الواسعة ، وفطرته السليمة أن كثيرًا ممن يتولون أمور الرعية يحاولون التماس رضا الناس ، ويسعون إلى أن يكون الجميع موافقين لهم ، وهو أمر لا يمكن تحقيقه أبدًا ، فراح يقدم خلاصة خبرته ، ونفيس نصيحته في ثنايا عمله مما يذكرنا بقول « ابن المقفع » (724م - 779م) في مستهل كتابه (الدرة اليتيمة) أو (الأدب الكبير):(إنك إن تلتمس رضا جميع الناس تلتمس ما لا يدرك ، وكيف يتفق لك رأي المختلفين ؟ ، وما حاجتك إلى رضا من رضاه الجور ، وإلى من موافقته الضلالة والجهالة ، فعليك بالتماس رضا الأخيار منهم وذوي العقل ، فإنك متى تصب ذلك تضع عنك مئونة ما سواه . لا تمكن أهل البلاء الحَسَن عندك مِن التذلل ،ولا تمكن مَن سواهم من الاجتراء عليهم ، والعيب لهم).
هذا ما قاله « عبد الله ابن المقفع » (724م - 779م) بل ما قاله « محمد خليل »، و« ابن المقفع » يخاطب الوالي أو الحاكم بقوله : (لتعرف رعيتك أبوابك التي لا ينال ما عندك من الخير إلا بها ، والأبواب التي لا يخاف خائفٌ إلا من قِبَلِها . احرص الحرص كله على أن تكون خبيرًا بأمور عُمالك ، فإن المسيء يَفرق (أي يخاف) من خبرتك قبل أن تصيبه عقوبتك ، وإن المحسن يستبشر بعلمك قبل أن يأتيه معروفك ، ليعرف الناس فيما يعرفون من أخلاقك أنك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب ، فإن ذلك أدوم لخوف الخائف ورجاء الراجي).
وهذا ما نطالعه (ص 57)، من المسرحية على لسان « عمر »: (إنني لو توانيت لحظة عن مظالم القوم ومصالحهم فلن أذوق الراحة أبدًا)، ثم يقول :(دعوني أؤدي حق الله ، لابد من تصحيح ما فسد من أمور). وفي الحوار الذي دار بين « بلال » و« ابن المغيرة » ، يكشف « العلاء بن المغيرة » حقيقة « بلال » الذي يَدعي الورع ، ويقول للخليفة « عمر »: (لقد أفهمته أنني أستطيع أن أشير عليك به لتولى إحدى الوظائف الكبيرة ، ثم ساومته على ثمن هذه الخدمة ، فاتفق معي على أن يعطني أجره عن وظيفته لمدة سنة كاملة ، وطلبت منه أن يكتب لي صكـًا بالمبلغ ، فكتب هذا الصك الذي بين يديك).« عمر »: (إذن فقد نجح في إغرائنا بِصَلاته ونُسُكه ، حتى كدنا نـُصدقه وننخدع فيه ، آه مِن هؤلاء الذين يظهرون غير ما يبطنون!)(ص 58).
وكأن « عمر » يستمع إلى نصيحة « ابن المقفع » الجامعة :(عَوِّد نفسك الصبر على مَن خالفك من ذوي النصيحة ، والتجرع لمرارة قولهم ، وعذلهم ، ولا تسهِّلن سبيل ذلك إلا لأهل العقل ، والسن ، والمروءة ، لئلا ينتشر من ذلك، ما يجترئ به سفيه، أو يستخف به كاره ومبغض ، ولا تتركن مباشرة جسيم أمرك فيعود شأنك صغيرًا ، ولا تلزم نفسك مباشرة الصغير فيصير الكبير ضائعًا ، واعلم أن رأيك لا يتسع لكل شيء ففرغه للمهم، وأن مالك لا يغني الناس كلهم فاختص به ذوي الحقوق ، وأن كرامتك لا تطيق العامة ، فاقصد بها أهل الفضائل، وأن ليلك ونهارك لا يستوعبان حاجتك وإن دأبت فيهما ، وأنه ليس إلى أدائها سبيل مع حاجة جسدك إلى نصيبه من الراحة ، فأحسن قسمتها بين راحتك وعملِك)( ). وشخصيات العمل تحمد للمؤلف ؛ فقد رُسمت بمهارة .
الأصـول الفـنـيــة
تنصب الأمور الفنية على عدة أمور منها : لغة الحوار ، وهي في هذا العمل سلسة طيعة تعبر عن لسان حال الشخصيات ، وتصور انفعالاتهم داخل المواقف وعبر الأحداث . ومن الأمور الفنية أيضًا : تصاعد الحدث ، وهو في هذا العمل يتصاعد تصاعدًا طبيعيًا منذ البداية حتى النهاية دون أن يكون في تصاعده أي انفعال ، ومن هذه الأصول الفنية أيضًا :(نقطة الذروة) وقد وصل إليها الأديب « محمد خليل » بشكل طبعيّ ومنطقيّ ، دون أن يقع فيما يعرف بعكس الذروة . ومن ذلك أيضًا (النهاية) وقد وصل إليها بطريقة مرضية تتسق وتتناغم مع المقدمات ، ومع تطور الأحداث ، ومع نمو الشخصيات ، وجاءت النهاية مقنعة مبررة بالنسبة للسياق المسرحي العام ، ففي المشهد الحادي عشر يدخل الخادم الذي سقى « عمر بن عبد العزيز » السم بتحريض من (ذئاب بني مروان) ؛ ليُعلن : (لقد سقيتك السم بيدي هاتين ... اقتلني يا أمير المؤمنين) ، ويسأل الخليفة : لماذا فعلت ذلك ؟ ، فيجيب :(الطمع والخوف ، وعمى البصيرة والبصر ... لقد ضحكوا علىّ ، وهددوني ، وأعطوني ألف دينار ... نعم لقد غرروا بي)(ويسلم الألف دينار إلى « عمر » فيقول « عمر » : اذهب سامحك الله ... اذهب . وحين تصعد روح الخليفة إلى الخالق ، يُضاء المسرح ، ثم يحدث إظلام تام ، وتبدأ رقصة الفصل الأول التعبيرية بهجوم بعض الذئاب على قطعان من الأغنام والماعز للتعبير عن انعدام الأمان برحيل الخليفة ، لكن في هذه الرقصة يكُون الهجوم شرسًا)(ص 101). وهكذا يظهر أن الطغيان هو أسوأ أنواع الحكم وأكثرها فسادًا ، لأنه نظام يستخدم السلطة استخدامًا فاسدًا ، كما يسئ استخدام العنف ضد الموجودات البشرية التي تخضع له ، وقد لاحظ « أرسطو »( ) بحق أنه :(لا يوجد رجل حر قادر على تحمل مثل هذا الضرب من الحكم ، إذا كان في استطاعته أن يهرب منه).
صــــــراع
الإنسان الحر - عند أرسطو - لا يتحمل الأشكال التعسفية من الحُكم إلا مُرغمًا ، إذا سدت أمامه كل أبواب الانعتاق من الحكومات ( ).
ومن هنا يتبين لنا أن الصراع الدرامي لدى « محمد خليل » ، أو الشكل الفنيّ ، عنده يبدأ بأزمة تدفع بالشخصيات إلى استرجاع الأحداث الأساسية في الحياة ، ومدى علاقتها بالأزمة الراهنة .
و« محمد خليل » لديه القدرة الفائقة على التغلغل داخل شخصياته بحيث يطلع القارئ على العوامل التي تنهشها من الداخل ، وتؤثر بالتالي على تفكيرها ، وسلوكها .
وعمومًا فإن أعمال « محمد خليل » تجسد ذلك الاحتكاك الأبدي بين العالم الداخلي للإنسان ، والكيان الخارجي للمجتمع ، ولذلك فقد خرج ههنا في (ذئاب بني مروان) من نطاق التقليدية المرتبطة بفترات زمنية ، وأماكن معينة إلى نطاق الإنسانية الرحب .
و« محمد خليل » من الكـُـتـَّاب المسرحيين الشغوفين بالسطور التي تسبق إسدال الستار مباشرة ، ولذلك فهو يعني بإتقان كتابتها تمامًا حتى تحمل في طياتها الشحنة الدرامية النهائية التي يريد لها أن ترسخ في ذهن (جمهوره) .
وهو ينهى قراءة أو مشاهدة العمل ، كما يحرص دائمًا على الالتصاق بشخصياته في كل مواقفها الدرامية دون استثناء . وهو يملك الدربة الحرفية لكي يكتب للمسرح .
واللغة في المسرحية وهبتها الحياة من خلال البوح بالأسرار لـ(المُتلقي) كما توافرت في المسرحية : الجودة ( )((Efficiency ، والفاعلية ( )(Effectivity)، والملاءمة ( ) (Appropriateness)
وهو كمُبدع ينطبق عليه قول « ت . س . إليوت »( ):(إن الكاتب الناضج يعرف جيدًا الوقت الذي يتحكم فيه بوعيه ، والوقت الذي يترك فيه القياد للاوعيه).
وصاحب العمل - الذي بين أيدينا - يترك شخصياته تتحرك في مجال صراعاتها في إطار الظروف المحيطة بها ، والشخصيات التي تتعامل معها ، ولهذا تمكن من بناء كيان مسرحيّ خاص به ،ولم يرض أن يقوم بدور التلميذ النجيب في مدرسة المسرح .
ومن هنا فصاحب العمل يُجدد ولا يقلد من خلال توسيع رقعة تقاليد الكتابة المسرحية السابقة عليه - ولكن - دون استعراض للعضلات التجريبية والفنية ، لأنه يؤمن إيمانـًا راسخًا بأن المسرح لا يستطيع أن ينفصل عن الحياة ، أو ينعزل بعيدًا عنها ، ولهذا فهو يحاول أن يضيف شيئـًا إلى من سبقوه .
وفي النهاية فإن ما قدمناه من وجهة نظر نقدية قد لا يعدم وشيجة قرابة بما أومأ إليه صاحب تلك المسرحية .
التي تسكنها شعلة التاريخ ، وقد يبدو منطقيًا في النظر الوهليّ أنه لا يجيد وصف الشوق إلا مَن كابده ، ولا يجيد وصف الأطلال إلا مَن وقف بها فعلا ً.