5 - شــعـــر الـفـصـحــى
مقدمة في شعر الفصحى .
« أحمد مطـر » ، و : قـراءة فـي إبـداعـه الـشـعـــري .
- أنـمـوذج مـن شـعـره .. قـصـيـدة :(خــذ ... وطــالــــب).
« أحـمــد نــور الـديـــن » ، و : هــمــســـات الـسـحـــر .
« زيـنـهـم الــبــــــدوي » ، و : مـــن وحــي الــمـــرارة .
« صــابـــر مــعـــوض » ، و : ما قالتها نظرتها الأولى .
« طـــــارق الطـبـيـلـي » ، و : في وقـت آخر غير الليلة .
مقدمـة في شعـــر الفـصحى
الشعـراء - بتعبير « إزرا باوند »( ) (1885م - 1972م)- : (قرون استشعار الجنس البشري). و" إذا كان هناك شيء بحدود لا تتناهي ، وبتعريف يستحيل فهو الشعر ، ومع هذا فإننا نتعرف إليه دائمًا ، لأنه التواصل بحالته الأنقي ، والحرية المطلقة للكلمة ، والمكان الذي يشتبك فيه الواقع بالممكن والضروري( ).
والشعر هو الملاح الذي يمسك بدفة سفينة الحياة , وهو معزوفة تمس أوتار النفوس وتحمل إليها ارتعاشة الشوق والتوق( ) . وفي الشعر يتجلى الترميز ، والإبدال ، والإزاحة ، وتتجلى المغامرات الروحية . " وقد بلغ شغف العرب بالشعر أنهم نقشوه على جدران منازلهم وأنديتهم ، وكتبوه على صدور مجالسهم ، وعلى القباب ، والأبواب ، وطرزوه على الستائر ، والطنافس( ) والكِلَل( ) ، والأسرّة ، والوسائد ، والمقاعد ، والكاسات ، وسائر آنية الفضة ، والذهب ، والصيني ، ونقشوه على العيدان ، والمضارب ، والطبول ، والمعازف والدفوف ، وزينوا به الثياب ، فطرزوه على ذيول الأقمصة ، والأعلام ، وطُرز الأردية والأكمام ، وعلى العصائب ، ومشاد الطُرز ، والزنانير ، والتكك ، والمناديل ، والمراوح ، حتى النعال والخفاف ، وزينوا به ظاهر أبدانهم فكتبوه بالحنـّاء على الجبين ، والخدود ، والأقدام ، والراح ، فحيثما توجهت رأيت الشعر منقوشًا أو مطرزًا ، أو مكتوبًا ، أو منسوجًا ، وتجد أمثلة من ذلك في "كتاب المُوشّى" ( ).
إن بعض الشبان ، ومازال بعضهم يُحاول أن يوفق لجديد في الشعر يلائم بينه وبين روح العصر الحاضر ، وفي هذه المحاولات جرأة ، وفيها جمال ، لكنها لمّا تُوفق للطريق السويّ فتعبر عن مدركاتنا وأحاسيسنا ، وعواطفنا بمثل ما وصل إليه النثر من قوة ودقة ( ). وصوت الشاعر يُطربنا ويشجينا حين يمتد في رحم الكلمة ، ويتخلق ويساقط غيثـًا . وعلى السطور القادمة لقاء مع عدد من المبدعين الشعراء ، الذين رأوا في الشعر أمًا رؤومًا ومصدرًا للبقاء والتجدد ، وجنةً تـُثـبـت أن الإنسان ذو قلب عامر بالحب الخلاق الذي هو الخير بعينه ، وما الحب إلا التوافق بين الكائنات ، وما التوافق إلا النماء والعطاء ، وما النماء والعطاء إلا الروح الحي الذي يَهُبُ الإنسان قدرة على الوصول إلى جوهر الكون والأشياء .
يقول شاعر إنجلترا الكبير « شيلي » ( ) (1792م - 1822م) :
(إن الشاعر يُشارك في الخالد والمُطلق ، وليس للزمان والمكان والعدد صلة بمفهوماته وتصوراته) . فالأشكال اللغوية التي تُعبر عن حالة الزمن ، واختلاف الأشخاص ، وتباين الأمكنة كلُها قابلة للتحول في نطاق أسمى دروب الشعر ، دون أن تمسَه باعتباره شعرًا ، ولقد اصطنعت لغة الشعراء نمطـًا خاصًا .
(1) أحـمــد مـطــر و : (قـراءة في إبـداعــه الـشـعــري)*.
لقد استطاع المبدع « أحمد مطر »( ) أن يحقق إنجازات شعرية إشراقية لها قيمتها الخاصة في الدفاع عن الوجود والهوية ، ولقد سلمت قوافيه من اليأس ، والرطانة والندب ، والتهويل ، لأنها تمتلك صفة النفاذ ، وحق العبور إلى مناطق جديدة من القلوب ، ذلك لأنها مسكونة بالمعاني الجديدة التي تعمق الفهم بالواقع ، وباللحظة التاريخية المواكبة ، وتسهم بشكل فعال في تغيير السائد المبتذل ، يرفدها وجدان أصيل ، وثقافة عميقة تمنح أشعاره نكهة خاصة أغنتها تأثيرات من التجربة والصدق ، والثراء اللغوي ، والبناء المعماري الذي يتجلى في قوله :(إن رضاء الحاكم عني / يعني أني / لم أفطن لتبلد ذهني / واستأمنت خيانة عيني / ووثقت بأن أنطق معنى / ينطق عني مالا أعني)، إنه شاعر يطارد الغربة وتطارده ، شاعر جعل الصدق مدادًا لكلماته ، والوطن مساحة لأبياته ، والحب زادًا لحروفه التي تحول الصمت إلى كلمات ، فيهتف :(كل ما نهواه مات / كل ما نهواه مات / رب ساعدنا بإحدى المعجزات / وأمت إحساسنا يومًا / لكي نقدر أن نهوى الولاة)، وشاعرنا فنان يعي ما يشوه الإنسان ويسجنه في ذاته الضيقة ، يفتت كماله ، ويحطم وحدته ، ويواري نبالته ، فنان يعي قوانين القهر ويكشف عن تجاوزها ، ويشير إلى الاقتحام الشرس للقيم المنفعية ، التي تتمثل في إيثار السطحي ، السهل على جهد المشاركة الخلاق ، فنان يحتفظ في صميم وعيه بثقافته الأصيلة المتوارثة ويشهرها بفنه العظيم ؛ ليؤكد حضوره في مواجهة القوى القاهرة ، وهو شاعر يفرق بين (الشمولي ، والديمقراطي)، و(الخرافي ، والعقلاني)، وهو يعلن ذلك دون مواربة : (إذا ما عُدت الأعمار بالنعمى وباليسر / فعمري ليس من عمري / لأني شاعر حر / وفي أوطاننا يمتد عمر الشاعر الحر إلى أقصاه / بين الرحم والقبر / على بيت من الشعر)، هكذا يمكننا الذهاب إلى داخل النص ، داخل التجربة الشعرية نفسها ، وليس ما يحيط بها ، بحيث تتحول القصيدة إلى وردة بيضاء تغوص في دمانا ، لمطاردة الصمم ، والخرس ، والعماء ، والزيف ، والرياء ، وتغنينا عن ألف كتاب قرأناه عن الحرية ، وأشعار المبدع « أحمد مطر » تضئ الأرواح المعتمة ، فتفيض حياة الناس طموحًا وتوثبًا : (خذ وطالب ، لا يضيع الحق ، مادام وراء الحق طالب).
نصــوص مطــريـــة
إنها نصوص " مطرية " تنتزعنا من واقعنا المرير ، حيث الهمم منحطة ، والعزائم فاترة خائرة ، عاجزة ، قاصرة ، مما يحملنا إلى القول بأن هذه النصوص تنهل من فكر توقد حتى استطال ، فأثلج القلب ، وأطفأ غلته ، وتبقى الريادة الشعرية للمبدع « أحمد مطر » قائمة تسجل أوجاع الفقد ؛ ليبقى صدى صوته في دمانا .
وشاعرنا له أشواقه ورؤاه ، ومواقفه وأحلامه ، وأدواته ، وإمكاناته ، وطاقاته التعبيرية ، يلتقط اللحظات الحميمية من تيار الحياة الهادر المشتعل بالحماسة ، المشبوب بالأمل ، لا يبرر ما في الواقع من تناقضات ، ولا يحميها ، بل يخلق عالمًا جديدًا ، يتطلع فيه إلى وجود أصيل للشخصية الإنسانية ، لهذا نراه يهتف :(وطني عشرون جزارًا / يسوقون إلى المسلخ / قطعان خراف آدميه / وإذا القطعان راحت تتضرع / لم تجد عينًا ترى / أو أذنًا من خارج المسلخ تسمع / فطقوس الذبح شأن داخلي / والأصول الدولية / تمنع المس بأوضاع البلاد الداخلية).
وشاعرنا مغرم بالسباحة في البحار الصعبة ؛ ليمد إلى الفجر طوق النجاة ، بيد أن التأمل المستبصر يدفعنا للإعجاب بشعر « أحمد مطر » وتقدير شاعريته ومعالم عبقريته ، وما حفلت به قصائده من غايات نبيلة ، ومقاصد شريفة . فهو شاعر بدرجة مناضل ، ينبت شعره سنابل ضوء تنير الحياة . وهو فارس نبيل يحمل بين جنبيه آمال أمته وشواغلها ، وما تصبو إليه قلوب الأمناء من أبنائها ، وهو مبدع عرف الضوء طريقه إليه فجعل من شجون أمته هاجسه الدائم ، وشغله الشاغل ، وتحسب له شجاعة الاختراق لموضوعات يجبن كثير من الشعراء عن تناولها ، فلم يدع فرصة تسنح له إلا قدم للمتلقين دليلا ًعلى حبه لوطنه ، وولائه لأمته ، وسعيه الجاد الحثيث ؛ لرفع نير الظلم عنها في ومضات دالة ، ولفتات معبرة ، ونفحات علوية ، تفوح في أروقة الشعر أريجًا ، وأنغامًا شجية قدسية الإيماض ، ورايات ترفرف للعدل المطلق ، والحرية ، والتغيير إلى الأفضل والأجمل .
وشاعرنا شعلة وهّاجة لا تخمدُها قبضة القهر ، يحمل في قلبه الإنسان العربي النقي . وهو واحد من أكثر الشعراء العرب التصاقـًا بالواقع العربي ، وتعبيرًا عن آلام أفراده ، حتى وإن لم يأت ذلك على نحو مباشر، وهو لا يرتبط بطبقة معينة ، بل يرتبط بقضايا الشعب والجماهير العريضة ، وله رؤية مستقبلية ترفض الجامد العقيم ، كما ترفض المهانة والتورط فيما يحدث ، وتدين الإحباطات ، والأحلام المجهضة ، والواقع المرير الذي يجبر على التواطؤ والمهادنة .
ويقف شاعرنا في خندق الشعر يقاتل العبث ، ولا يكتفي بالحلم ، بل ينقل الوعي ، ويرفض الظلم والقهر، ويعمل على صياغة الرأي العام ، ويعبر عن خصوصية مجتمع يعاني من الظلم الاجتماعي ، ويتسع أفقه لأكثر من رؤية ، لكنها في النهاية تعتمد على رؤية شعبية جماهيرية ، تعي : الماضي ، والحاضر ، والمستقبل ، والواقع الإنساني ، وتأبى التصالح مع الأمر الواقع من حيث الجوهر، كما تأبى استمرار الاغتراب والتوحد مع الجلادين ، ومن هنا كانت حفاوة محبيه كبيرة بشعره ، سواء في البلاد العربية أم في خارجها ، مما يَنفي فكرة الخواء الثقافي التي يتشدق بها البلهاء .
أنـمـوذج مـِـن شـعـــره
قـصـيــدة : (خـُـذ ... وطـالـِـب)
خـُذ ْ... وطالـِـبْ .
هذهِ الأكوان لمْ تـُخلـَـقْ بـيـوم ٍ
وعلى هـذا فإنَّ الصّبرَ واجـِـبْ .
كـُنْ سـيـاسـيــًا مع الأعـــداء ِ
راوغـْـهـُـمْ بضبـطِ النـَّـفـْـس ِ
طأطـِئْ ، وتجرَّدْ ، وانْبطـِـحْ ،
وارفـع ، وحـاســب .
فإذا قصـوا لك اللحـيــة
طالبهم بتنتيف الشـوارب .
وإذا هُـمْ نتـفـوا الأهـداب
طالبهم بإحفاء الحـواجـب .
وإذا ألغوا لك الخصية
طالِبهُم بتعطيل ِالحـوالـِبْ .
وإذا شقـّوا لك السّـروالَ
طالـِـبْهـُـمْ بتقطيع ِالجـوارِبْ .
وإذا حطوا على ظهرك سرجـًا
اقبل السرج ... وطالبهم براكـب .
وإذا هم وضعـوا الراكـب
طالبهم بخازوق مـناسـب .
وإذا هـُـمْ ثبـّـتـوا الخـــازوقَ ..
فـتـّـــشْ عـن مَطـالـبْ .
هـكـذا ... شيـئـًا فشيـئـًا ،
وبِِطول ِالبال تحظى بالمكاسـِـبْ .
خـُذ ْ... وطَـالــــِبْ .
لا يـضـيــع ُالحــــقُّ
مادامَ وراءَ الحقِّ طالـِـــبْ ! .
(2) أحـمــد نــور الـديــن ، و : (هـمـســات السـحــر) .
حـكـايـة طـويـلــة
قبل أن نبحر مع ديوان (همسات السحر) للشاعر الراحل « أحمد نور الدين » ( ) أود أن أشير إلى أن العلماء يقولون لنا : (إن الشعر أقدم من النثر). ولا نعني بـ(النثر) هنا ألفاظ الحياة اليومية ، بل النثر الفني الذي لا تستعمله الإنسانية إلا في أطوار حضارتها .
أما الشعر ، فهو ثمرة البداوة والحضارة معًا لأنه نتاج اللحظات الخصبة التي يعرفها كل جيل وقبيل من الناس . لم يتخل الإنسان إذن عن الشعر قط ، بل ظل يبدعه في كل زمان ومكان ، ولم يتخل عنه أيضًا متذوقـًا ومستمتعًا بل ظل كل إنسان يأخذ منه قدر ما يستطيع .
فهذا قد يأخذ منه الموال الساذج ، أو أغنية العمل البسيطة ، أو النشيد الحماسي الملتهب ، وهذا يأخذ منه أغنية الغرام العذبة أو المناجاة الدينية الرقيقة ، وهذا يقدمه على ملاحمه ومسرحياته وقصصه ( ) .
والشعر عند الشاعر الراحل « أحمد نور الدين » حكاية طويلة اختصرها الشاعر بمقدمة ديوانه (همسات السحر) الذي صدر عام (2004م)عن دار الحارثي للطباعة ، ويقع الديوان في (170 صفحة) من القطع الوسط ، ولقد صمم غلافه الفنان « حسين عبد ربه »( ).
يقول شاعرنا في مقدمته :
(لقد كان من المقرر أن يكون ديواني الثالث قصة شعرية بعنوان : (موسى الكليم) لتكون ثالثة القصتين السابقتين :(يوسف الصديق) ، و(إبراهيم الخليل)، حيث كتبت منها ما يربو على تسعمائةبيت - حتى الآن - من بحر البسيط ، إلا أن ظروف مرضي العضال (الشديد المعجز الذي لا طب له)، حالت دون استكمال خاتمتها ... ولقد سبق أن أشرت في مقدمة ديواني (إبراهيم الخليل) منذ سبعة عشر عامًا إلى قرب إصدار ديواني (همسات السحر) ، وقلت فيها إن نشر ديواني يحوي قصائد قصيرة ( ) متنوعة الموضوعات والبحور ، قد يكون بالنسبة لأي شاعر هو المحك الحقيقي الذي يمكن للنقاد من خلاله الحكم على القيمة الأدبية لشعره)( ) .
وبين (السعي ، وتحقيق الفكرة)، و(الطريق ، والخطوات)، كانت الرحلة التي أقام شاعرنا فيها منارة تضئ الآفاق المعتمة في لغة شعرية لها نكهتها الخاصة ، لغة لا تكف عن تفكيك ذاتها , وطرح تشكيلاتها الجمالية ، رغبة في الإمساك بما يرحل , في زمن يخوض فيه الإبداع لجة الغياب .
يقول شاعرنا تحت عنوان : (الشعر عندي)(ص17):
(في الشعـر أشغَف بالمعاني والفِكَر / من قبل شغلي بالبديع وبالصّورْ . / فالقول بالمعـنـى يحــدد نـَوعهُ / ويـبـيـت إمّا في جـِـنان ٍ أو سَقَرْ . / حلو الكلام بكنهـِـهِ لا صُنـْعـه / وبما يجـسـد من عظات أو عِبَرْ).
فشاعرنا يطيب له وسط هذا الشقاء الطامي ، والصراع الدامي ، والظلام الشامل ، أن يرى ضوءًا مشرقـًا ، ولا يحب التهويمات العبثية . والفنان إذا رزق البصيرة الفنية ، فإنها تنفذ به من خلال غواشي بيئته وعصره إلى الحقائق الخالدة .
وأشعار الديوان يُشغَف بها المُتلقي ، وهذا مقام الشاعر في الغياب ، حضور طيفه في ديوانه ، وبزوغ فجره في أبياته الواضحة القسمات , التي تعيد جدولة الحياة ، تشق جدار الصمت ، وتسرج جواد الفؤاد ، تختصر المسافات ، تقدم وردة يفوح عبيرها ، تتوهج ، لا تعرف الذبول . يغترف شاعرنا من غلظة الواقع حتى يلامس لهبه ، يصنع طوقـًا للنجاة في طوفان التهالك الشعري ، يقدم لنا مفتاح قصائده ، يدق باب سموقها وشروقها ، يزيح باب خمولها وخمودها ، لا يرضى بالضباب ؛ ليعيد إلى الفؤاد ذاكرة المثول ، وانظر عنوان الديوان (همسات السحر) :
تقول : همس فلان إلى أخاه همسًا ، وهامس فلان فلانـًا : ساره ، وتهامس القوم تساروا . والمهموس من الكلام : غير الظاهر . ومن الحروف : غير المجهور . والحروف المهموسة عشرةٌ يجمعها قولك :(حثه شخص فسكت) . والهمس : كل خفي من كلام ونحوه ، وفي التنزيل العزيز :وَخَشَعَت الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمـَـن ِفـَلا تـَسْـمـَعُ إِلا هـَـمـْسـًا ( ) .
والسحر : آخر الليل قبيل الفجر ، والسحر من الشيء : طرفه ، والبياض يعلو السواد (ج) أسحار . ويقال : لقيته في أعلى السحرين ، وهما سحر مع الصبح ، وسحر قبله ، كما يقال الفجران للكاذب والصادق ، والسحري : آخر الليل قبيل الفجر . والسحرية السحري( ).
والعنوان - كما نرى - ينشر الضياء , ويوزع الأنداء في أرجاء كوننا الضرير ، الذي سكنته أشباح الأقوال ، وهو يفتش عن الجذوة المشتعلة المضيئة حتى لا نكتفي بالرماد .
وفي قصيدة نظمها الشاعر في مصيف (جمصة) عام (1983م) يقول :
(أبنيّ مـاذا قــد يـقـول لساني/ والحب سيل فاض في وجداني ./ ماذا أقـول إذا رأيـتك ناظــرًا / نحوي بطرف قاصـر وسـنـان ؟)( ).
ويستمر في نسج قصيدته فيمتد شعاع فكريّ من شمس الملكوت الشعريّ ، ويختلط الذاتي بالموضوعي بغير تعسف أو افتعال ، حتى يعود الشعر بين يديه خارطة يلونها كما شاء ؛ فتنهار سدود ، وتتفتح حدود بكلمات تظل ماثلة أمام الفكر ، والذاكرة ، والقلب ، وبصور تخفق لها الروح وتأتي الخاتمة :(عمري يسير إلى غروب آفلا ً / وأراك في محياي عمري الثاني).
وشاعرنا كما نرى يبتعد عن المبتذل الذي لاكته الألسن ، ومجته الأسماع ، والقصيدة متكاملة متجانسة ، واللغة آسرة تقتنص تناقضات الواقع ، ومفارقاته ، وعلاقاته المتنامية المتداخلة ؛ لتخدم السياق في إطار الوحدة الموضوعية للنص الحافل بالألفاظ والأساليب العربية الأصيلة ، ولسنا نرتاب في أن الشاعر التقط عناصر حياتيه شديدة الألفة ، لكنها تدهشنا ، فاللون المحلي لا ينفي الوحي العلوي ، ولا يطفئ شرارة الشعر المُقدسة .
وفي (أهازيج للنيل) (ص 49) تفيض المعاني والأماني ، وتومض قوى الخلق والإدراك ، ويتحرك النص في فضاءات مختلفة :
(لو أسقى من نهر كوثرْ / ذي شاطئ ديباج أخضر . / وبقاع ينضخ بالعنبر / والساقي يفعل ما يؤمر . / فسأذكر ماءً في نيلي).
وتمضي الأهازيج مغموسة بالدهشة ، والشغف ، والحرقة ، تتعطر بالحب وتتوضأ بالطهر .
في الجـنــازة
وفي قصيدة بعنوان : (في الجنازة) يغوص شاعرنا في جوهر الأشياء ، يُمارس إنسانيته ، يتوحد بأفكاره ، ينشر أشرعته ليستدرج الإبداع ، يأتي بطرف من أخلاق نفسه التي كانت قوام شعره ، يستلهم الدروس والتجارب ، يغوص في ذاكرة النبض الذي لا يتوقف مادامت هناك حياة ، يدخل إلى المناطق المهجورة في مشاعرنا ، يضغط على جراح حية نازفة ، ومن خلال صور فنية ولغة ملتاعة , تعود الشمس وهي تحمل معالم بهجة فقدت ، فالموت هو رحلتنا الأخيرة للوصول إلى البقاء . ومن خلال هذا المزيج المركب من النقائض يطغى الحزن فوق أخيلة شاعرنا ، لكن الكلمات والأبيات تستمر في عبور الصوت : (مات الرجل ... مات الذي كان للتقوى مثل ... مات الذي قرن العبادة بالتفاني في العمل) (ص 56) . ويمضي الشاعر في رحلته ، فينزلق الزمن نحو الموت ، فالموت خطوة للخلود ، وتبقى من كل إنسان سيرته, وتبقى من كل شيء هذه الذكرى , وانظر إلى هذه الصورة بعد دفن الميت : (ويعود من نفروا ... ويصطفون من أجل العزاء ... كل يدوس على (زرار) في القناع ... فعليه صوت سجلوه لكي يذاع ... في كل سفر للفناء ... ويقول لله البقاء ... ويهمهم الساعون ترديدًا لما هم سامعوه ، لكنهم لم يفقهوه) (ص 59) .
والشاعر يحاول أن يسبر أغوار الموت , بفكر لا يكف عن التوثب ، وشعر يتسع لكل أبناء الرحم الولود الودود ، يربت على أكتافنا , ويشد على أيدينا ، لا يعدل عن المألوف المتعارف عندنا إلى غريب من اللفظ غير مأنوس ، ولهذا لم ينقطع بينه وبيننا خيط الإبانة والإفهام ، فهو على يقين بأن الألفاظ الفصيحة المجفُوة لا تأنس بها الأسماع ، ولا تصل نبضاتها إلينا ، وكم من شاعر أظلم قوله ، وغم تعبيره , لابتعاده عن الأسلوب المعروف ، أو اتباعه للسوقي المكشوف ، الذي يزدحم حوالينا من كل جانب ، لهذا فشاعرنا - رحمه الله وطيب ثراه - شاعر لا يخالف سجيته ، يحسن المعنى والمبنى ، وهو شاعر عربيّ الوجه واليد واللسان .
حـيـــاة ومـــــوت
أحس شاعرنا أن شمس العمر على شفا ، وماء الحياة إلى نضوب ، ونجم العيش إلى أفول فاعتذر لأصدقائه الشعراء عن عدم إيراد المحاورات الشعرية التي دارت بينه وبينهم ، ووعدهم بنشرها بعد ديوان (موسى الكليم):(إذا كان في العمر بقية لذلك إن شاء الله) . قالها ورحل ، فوهبه الموت الحياة ، فهو الذي غنى لرفيقة عمره (ص67)، وأبدع قصيدة بعنوان : (رفيقة العمر)، عام (1982م) يقول فيها :(حبيبة القلب إن قلبي / تعوّد الدفق من هواك ./ وإن يغب فالحياة موتٌ / وغايتي بعده هلاكي). ثم هو يذكر (اللحد) في قصيدة بعنوان :(هل يمكن تغيير الجلد)(ص71):(الأبيض سوف يظل الأبيض ، والأسود سوف يظل الأسود ، من فجر المهد لغسق اللحد) . واللحد لغة : الشق يكون في جانب القبر للميت ، والجمع : ألـْحَادٌ ولحود . كما ذكر القبر في قصيدة بعنوان : (اتركها لباديها) (ص 74) ، حيث يقول :(لا يدخل (القَبرَ) إلا عاري الجسد/ ثيابهُ خُلِّفَتْ للغَيرُ يُبليها).
والقبرُ لغة ً: المكان يدفن فيه الميت والجمع قبورٌ وأقبُر . والمقبرة مجتمع القبور . والقبر (محدثة) ، والجمع مقابر . وقبر الميت يقبره قبرًا : دفنه . وأقبر فلانـًا : جعل له قبرًا ، وفي التنزيل العزيز: ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ( ) . وشاعرنا في قصيدة (الحب الدافئ) (ص 77) يقول في ختامها :(وننام لا نبغي من الدنيا متاع ... إلا تحيات الوداع) .
وفي قصيدة بعنوان (مولد الرابعة) نظمها الشاعر عقب مولد ابنته « نداء » رابعة أولاده يهتف قائلا ًعن أولاده : وهم الذي سيشعرون لـ(موتنا) بالفاجعه ./ يتحلقون ، وينظرون ، ويقرؤون (الواقعه) / أفبعد ذلك تحزنين ؟ تبسمي يا (رابعه). وفي قصيدة بعنوان (جريمة العصر)(ص 85) تطل المقابر من بين السطور فيقول : (الناس ساروا يضحكون وما بكى منهم أحد / بين (المقابر) يرقصون وليس فيهم من رشد) . ويظل الموت ، والدفن ، والجنازة هو الجو المُسيطر فيقول : (هيا (ادفنوها) ثم رصوا فوقها صلب الحجر/ ثم ارجعوا متحررين من الزواجر، والعـبـر).
والموت هنا ينتزع الشاعر من جذوره ، يهزه هزا لكنه ثابت راسخ ، مؤمن يحكي عن الغير ، يشخص الداء ويصف الدواء ، حتى لا يكون بمقدور الظل ابتلاعه ، فهل تنبأ الشاعر بموته ؟ ، ولماذا نسج خيوط الموت في قصائده ؟ ، هل يرجع ذلك لأنه يرى الحياة في الموت ؟ .
أسئلة كثيرة تلوح في بريق الوقت النازف فها هو يقول :(وصلوا لحي في المدينة في مواجهة (القبور) / نهبوا البيوت فما نجت حتى الجواهر في الصدور).
ويصبح تواتر الأصوات نوعًا من التجانس اللفظي ، حيث يعبر شاعرنا عن الحياة القاسية ، والمرارة التي تجتاحه ، والعبارات ساخنة دامعة ، والألفاظ سهلة قريبة ، والنزعة العقلية ظاهرة في مقابل الانتباه لكل ما يمكن أن يحيط بالنص الشعري ومكوناته الذهنية والأدبية ، وهكذا يتعرى النص في مواجهة الموت :
(عادوا إلى (قبر) القتيلة قد تعود لها الحياه / إما تعودي أو (نموت) بغيرك الدنيا فلاه) . ويختم الشاعر مواجعه وهمومه في نهاية طريق موحش طويل ونراه يقول :(ولقد مشينا في (جنازتنا) فما اتأدت خطانا /عِثنا فسادًا في الحمى يا للعمى هذا حِمانا).
وكأن الشاعر يفضي بأسراره وأحاسيسه إلى ذاته قبل أن يفضي بها إلى الآخرين ، ينفخ في (فن الرثاء) روحًا جديدة عصرية ؛ فتشرق فيه أجواء العصر ، فالشاعر تعرف الروح الخالدة في الأشياء ، فكل مظهر من المظاهر يحرك في نفسه التقوى ، ويطلق من قلبه الأشعار .
والشاعر الحق يحلق بعيدًا عن المطامع والشهوات ، ويرتفع إلى المستوى الأعلى حيث يتلقى الوحي ، ويتم الامتزاج بين نفسه وفكره ؛ ليستنزل اللانهائي إلى جنبات الحياة ، وخير الشعر هو ما فسر الحياة ، ووافانا بآراء أنضج وأكمل عن حقيقتها - بحسب « على أدهم » - القائل : (الشعـر لا يمتعنا إلا إذا أبان لنا الأبدي الخالد خلال صوره وخيالاته)( ).
قـامـوس الـشـاعـــر
تدور كلمات شاعرنا في فلك الثقافة القرآنية ، وهو أمر لا يقدر عليه إلا من وُهب الثقافة الرفيعة ، والهمة العالية ، والقوة الدافعة ، والعزيمة الصادقة ، والحجة الدامغة .
ففي قصيدة (همسات السحر) التي يحمل الديوان اسمها يقول (ص110):(وفيه بيدٌ خلاف البيد قد سُطِحتْ / بداخل الناس (لا تُبقِى ولا تذر)./ كأنه عَبقرٌ و(الجِبْتُ) يحكمه / تُحَسّرُ العين في أنحائه الغير).
وفي سورة المدثر :وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ، لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) ). وفي سورة النساء : أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ ( ). والجبت : كل ما عُبد من دون الله ، والكاهن ، والساحر ، والسِحر( ).
ويقول شاعرنا في نفس القصيدة :(تبور فيه أصول الزهر إن غرست / وفيه بائرة (الزقوم) تزدهر).
وفي (الصافات) :أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ ( ). وفي (الدخان): إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ ، طَعَامُ الأَثِيمِ ( ). وفي (الواقعة) : ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ ، لآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّوم ٍ ( ).
وفي قصيدة (الشعر عندي): (فلربما استهوت يراعك صورة ً / تهوى بها في النار (لم تغن النذر). / لو قلت : إن الشعر فن خالص/ يذر المعاني قلت :(كلا لا وزر)).
وفي (يونس) : وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ( ). وفي سورة (القيامة):كَلا لا وَزَرَ ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ( ).
وفي نفس القصيدة (ص 19) يقول شاعرنا : ((تزجى السحاب) إلى الهضاب فترتوي / فتفيض أرحام البوادي بالشجر) .
وفي سورة (النور) : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا( ) ، كما يرد الفعل (يزجى) في سورة (الإسراء)( ). وزجا الشيء يزجو زجوًا وزُجوًا وزَجَاءً : تيسر واستقام وراج وزجا فلان في الأمر زجاء : نفذَ فيه . وزجا الشيء زَجْوًا : ساقه ودفعه ، وساقه برفق .
وفي قصيدة بعنوان : (بنك العطاء) (ص53) يقول : (للناس أعطى ما حرمت لأنني / أكتال من خير بملء (صواعي)).
وفي سورة (يوسف): قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ( ) . والصواع : الصاع ، بمعنى المكيال ، تكال به الحبوب ونحوها ، وقدره أهل الحجاز (ما بين تهامة ونجد) قديمًا بأربعة أمداد ، أي بما يساوي عشرين ومئة وألف درهم . وقدره أهل العراق قديمًا بثمانية أرطال .(والصاع : الصولجان أيضًا (ج) أصواع وصوعان وصيعان ) والصواع : الإناء يُشرب به . وبالمكيال أو الإناء فسرت الآية (72) من سورة (يوسف) .
وفي قصيدة بعنوان (آليت على نفسي الملتاعة) (ص 94) يقول شاعرنا :(تتنزه عن سحت منزوع / لا يسمن ... لا يغني من جوع).
وفي (الغاشية) :لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِن جُوع ٍ( ).
وفي قصيدة (اضرب ابن الأكرمين) (ص 101) يقول عن (مصر) : (دافعوا عنها لتبقى / كعبة للزائرين . / كي نظل نقول دومًا /ادخلوها آمنين.) ، وفي سورة يوسف : فـَلـَمـَّا دَخَلـُوا عَلـَى يُوسُفَ آوَى إِلـَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِن شَاء اللهُ آمِنِينَ( ). وفي (الحجر) : ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ ( ) .
ويقول شاعرنا (ص100) بنفس القصيدة :(يبتغون لعنصرينا / شر قطع (للوتين)). وفي (الحاقة) : ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ( ) . والوتين : الشريان الرئيس الذي يغذي جسم الإنسان بالدم النقي الخارج من القلب (ج) وُتْن وأوتنة .
وفي (ص 106) يقول : (محكمة (لا يعزب) عنها (قطمير) نواه). وفي (يونس):وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِين ٍ( ). وفي (سبأ):لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْض( ). وعزب الشئ يعزب عزوبًا : بعد ، وخفي . وفي سورة (فاطر) : وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِير ٍ ( ) والقطمير : القشرة الرقيقة على النواة كاللفافة لها . والشيء الهين الحقير ، يقال : ما أصبت منه قطميرًا .
وفي قصيدة (قصف الأوتار) في أعقاب اجتياح « صدام حسين » لدولة الكويت ، يقول شاعرنا (ص 126): (هجر اليراع فطالما قد خاله / عالي النذير كنقرة الناقور).
وفي (المدثر) : فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ، فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ( ). والناقور : الصور ينفخ فيه والجمع نواقير( ) ، واليراع : القصب ، واحدته : يراعه ، (والقلم يتخذ من القصب ، والقصبة التي يزمر فيها الراعي)، ومنه قول الشاعر :
أحن إلى ليلى وإن شطت النوى بليلى كما حـن اليـراع المثقــب .
واليراعة : الجبان . يقال : هو يراعة ، والأحمق ، والنعامة .
وفي قصيدة : (في تلابيب الحرف) (ص 139)(على مقامع من حديد) ، وفي سورة (الحج) : وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ( ) . والمقمعة : خشبة أو حديدة معوجة الرأس يضرب بها رأس الفيل ونحوه ليذل ويهان ، والجمع : مقامع .
يطول بنا الوقت لو مضينا نتتبع قاموس الشاعر القرآنيّ ، أو اللغويّ إذ لا يتسع المجال لإيراد أمثلة من شعره ، حيث يقوم كل لفظ بالتعبير عن المراد أصدق تعبير وأجل تصوير ، ولقد مثل شاعرنا بفطرته الشعرية ، وسليقته العربية استجابة لحاجة أصيلة في النفس العربية ، وفي كل نفس تهتز للشعر فأرضاها . إن شاعرنا قد عبر في ديوانه عن أصدق تجاربه في الحياة ، وحدد موقفه ، وصور شخصيته ونظراته ، وخفقاته الوجدانية . والشعر في حقيقته لحظات نادرة في حياة الإنسان ، ومن هنا كانت قيمته التي تسمو به على كل الفنون ، فإذا أسهمت هذه القراءة في إثارة العشق لهذا الديوان ، تكون قد حققت الغرض الذي توخيناه ، وعلى الله قصد السبيل .
(3) زيـنـهــم الـبـــدوي ، و : مـن وحـي المــــرارة*.
ـرح الـقــضــايــــا
يقف النقد الأدبي المعاصر على عتبات مرحلة جديدة ، ولا يتجلى هذا في الميل إلى إجابات قاطعة على منظومة الإشكالات التي تطرحها الدراسة الأسلوبية الحديثة بقدر ما يتجلى في الطموح المتنامي إلى مراجعة صحة وضع هذه الإشكالات ، وسلامة طرح القضايا ، وتحليل النص الشعري يسمح أساسًا بعدد من المداخل إلى دراسته ، إذ يمكن أن يدرس النتاج الفني من حيث هو مادة إضافية تتناول مشاكل اجتماعية ، أو تاريخية ، أو سياسية ، أو اقتصادية ... والقائمة طويلة جدًا ، ويمكن أن يتخذ النص الفني منبعًا لمعلومات عن المبدع ، أو البيئة ، أو القيم الخلقية في هذه الحقبة أو تلك ، كما يمكن أن يكون بخلاف هذا أو ذاك ، فينظر إليه من حيث هو نص فني أولا ً وقبل كل شيء ، وساعتها سيكون محور الاهتمام هو القيمة الفنية الخاصة التي تجعل هذا النص مؤهلا ً لتحقيق وظيفة جمالية معينة . وديوان الشاعر « زينهم البدوي »( ) (من وحي المرارة) يسمح بعدد من المداخل النقدية إلى دراسته ، فنحن أمام شاعر مبدع ، توافرت في شعره عناصر الإبداع والاستواء ، والديوان يقع في (128 صفحة من القطع الصغير) ، صمم غلافه الخارجي الفنان « عطية الزهيري » ، وكتب لوحات الخط الفنان « مصطفى عمري » ، والإخراج الفني للمُبدع « جمال عبد الغفار بدوي ». والتقديم للشاعر الكبير « محمد محمد الشهاوي » ( ) الذي خص شاعرنا بقصيدة رائعة مطلعها :
ظمأ هي الدنيا ونحن الرِّي مهما نكابد أيها (البدويّ).
ويكتب شاعرنا (بين يدي المرارة) فيشير إلى أن « الشهاوي » لا يجارى مبدعًا وإنسانـًا ، وتتوالى القصائد : تجارة - أعباد أم عبيد ؟ - سبحـة في عيـلـم الشعـر (من وحي صاحب الذكرى الشاعر الكبير الراحل « صالح الشرنوبي » ( )(1924م - 1951م))، أبا الأحلام - بين الفرعون والملك - يا راحلا ً - حلم الكرى - بئس الأقوال ... إلى أن نصل إلى الختام المسك : قلم توضأ (إلى صاحب القلم المتوضئ ، أمير البيان العربيّ ، الراحل « مصطفى صادق الرافعي »): (قلم توضأ ثم صلى ركعتين / ماذا عساه يخط في ألف اللجين ؟ ./ بعد انبثاق النور في كلماته / أضحى شهابًا نيرًا في الخافقين) .
وبالرؤية النقدية للأستاذ الدكتور « صفوت زيد »- رئيس قسم الأدب والنقد بكلية اللغة العربية ، جامعة الأزهر ، فرع إيتاي البارود - يتم الكشف للمُتلقي عن رؤية الشاعر للوجود ، وسعيه لفهم واقعه ، ذلك الواقع الذي يستعصى التعبير عنه بأساليب مباشرة ، فكان الديوان بحره اللجي الجياش أبدًا بأمواج لا هدوء لها .
الـشـاعــر وشـعــــره
شاعرنا إذاعيّ نابه ، يتضوع شعره بعشق القيم النبيلة ، وهو صاحب أسلوب رائق ، يجمع بين الجزالة والسهولة في العبارة والمأخذ ، مع بعد الغور ، ودقة المبنى والمعنى ، لإصابة الهدف المنشود ، والوفاء بالغرض المقصود من أقرب سبيل ، ترفده ثقافة موسوعية تأخذ من كل فن بطرف ، وتتجلى هذه الثقافة حين ينظم أشعاره ، ويسجل أفكاره ، وقد مكنته قوة حافظته من رصد الدلالات التي تحيط بالمواقف , وذلك أمر ليس بالكثير على مبدع اتسعت حياته لهذه الثقافة الرفيعة ، التي تحسب له في مجال إبداعه ، وهو لا يعرض هذه الثقافة في بذخ وإسراف ؛ ليظهر سعة معرفته ، وغزارة اطلاعه ، لكنه ينزلها منازلها اللائقة الفائقة , فيضيء بها أجواء شعره ، ويجلو غوامض الأفكار ، ويسبر غور الأسرار ، بحيث تصبح مادة يستمد منها المتلقى زاده الفكري ، ويسير في أضوائها . وشاعرنا لا يتصيد الغريب الوحشيّ ، ولا الكلام الحوشيّ ، ولا يُسرف في إصطناع المترادفات ، التي تجعل الألفاظ غير مفصلة على قدود المعاني . يقول عن شعره :(الشعر تغريد البلابل / للخير تطرحه السنابل / إن رق فاض نسائمًا / أو ثار .... دوى كالقنابل / الشعر إكسير الحياة / هبة الخلود من الإله / في بسمة الأمل الوضي/ أو دمعة مزجت بآه). وديوان الشاعر من نسيج قلبه ، وربما أنبأت هذه الأبيات بما يموج به الديوان من حركة , وما ينتهي به من جداول فوارة (من وحي المرارة).
وقد لخص الشعراء تجاربهم الشعرية كما فعل شاعرنا , فأمير الشعراء « أحمد شوقي » ( ) يقول :(كان شعري الغناء في فرح الشر / ق وكان العزاء في أحزانه) ، والشاعر المهجريّ « إيليا أبو ماضي » يقول :(إنما نحن معشر الشعـراء/ يتجلى سر النبوة فينا) ، والشاعر المهجريّ « رشيد سليم الخوري » المُلقب بـ(القروي) يقول عن وفائه :(عدمت نظيري في وفائي لأمتي / فقل عشيري حين قل مجانسي ./ شغلت بموسيقا الكواكب مسمعي / بعيدًا بعيدًا عن هميم الخنافس)( ). وعن شعره يقول الشاعر السوري« محمد سليمان الأحمد » (بدوي الجبل):(الخالدان - ولا أعد الشمس - شعري والزمان)، ويقول أيضًا :(كل شعر يفنى ، ويبقى لشعري/ شرف باذخ ومجد أثيل). أما الشاعر المهجريّ « زكي قنصل » فيقول مفاخرًا : (أنا سيد الشعـراء غير مدافع / أمشي فتمشي خلفي الشعـراء) . والشاعر اللبنانيّ « سعيد عقل » يقول : (أنا البحـر (شـوقـي) / أينا الآن أشعـر).
ولو مضينا في تتبع مثل هذه الأشعار لمضى بنا الوقت ، ويطول بنا الأمر إذا رحنا نقف عند الخصائص التي عبر بها كل شاعر عن شعره ونفسه ، والذي يعنينا هنا هو ابتعاد شاعرنا عن النرجسية في القول ، فشعره له تفرده ، وهو شعر لا يتحدى المُتلقى بل يذهب إليه في بساطة ويُسر ، لا يغرق في تعقيدات النظم ، وألاعيب الرصف ، والإلغاز في الوصف ، وهو يستدعي ويستلهم اللغة التراثية النقية ، التي تميل إلى الاختزال اللغوي ، والتكثيف ، ففي قطعة (تجارة) (ص 11) من الديوان ، يعرفنا الشاعر بنفسه ، بعد أن عرفناه بشعره الذي أخلص له الود ، وأنزله من نفسه منزلة كريمة ، فيقول( ) :(أنا شاعر في كل(بيت) يعرف/ وتجارتي في الناس هذي الأحـرف / قل لي بربك إن أردت لها صدى/ فبأي بنـك في بــلادي تصــرف ؟ / واحسرتاه على طهارة شاعر / قد عاش عمرًا بالطهارة يوصـف / إن كان شرطًًا للبقاء صَغـَاره/ فالموت في عيني أجل وأشرف) . وشاعرنا يستدعي مضامين التراث وتصاويره ، ولقد كشفت الأبيات عن لون من ألوان عشق الكلمات وحروفها ، وانظر إلى كلمة (بيت) عنده ، فالبيت لغة : المسكن ، وبيت الشعر : كلام موزون اشتمل على صدر وعجز ، وبيت القصيد : أحسن أبيات القصيدة ، ويقال : هو جاري بيت بيت : ملاصقي ، والجمع أبيات وبيوت ، و(جمع الجمع) بيوتات ، ويغلب على بيوت الشرف( ) ، وهو يستخدم (البنك) بدلا ً من المصرف لسهولتها ، والبنك لغة : مؤسسة تقوم بعمليات الائتمان بالاقتراض والإقراض ، واللفظ أقره مجمع اللغة العربية ( ). والمصرف لغة : مكان الصرف وبه سمى البنك مصرفـًا ، وللكلمة وجوه أخرى( ). ويتحسر الشاعر على طهارته في زمن قل عطاؤه ، ونكد بحاجتنا ، وبخل بها . وفي قوله (واحسرتاه) يستخدم أسلوب النداء ، الذي يشتمل على حرف النداء والمنادى ، والنداء لغة : الدعاء ، وعند النحويين : طلب الإقبال ، ويستخدم شاعرنا حرف النـُّدبة (وا) ، والنـُّدبة في النحو : النداء بـ(وا)( ) فهو حرف نداء مختص بأسلوب النـُّدبة(وأجاز بعضهم استعماله في النداء الحقيقي)( ) ويستخدم : الصَّغار مِن قولنا : صغر يصغر صغارًا : رضي بالذل والضعة . فهو صاغر . (ج) صغرة ( ). وقارئ هذه الأبيات يحس بهذا الجو النفسي الحزين الذي يتبدى لنا من خلال الصور التي رسمها لنا الشاعر ، الذي اتخذ من أشعاره وترًا تتغنى موسيقاه بقيم الحياة الحقيقية (الخير - الحق - الجمال)، ولا نكاد نمضي في إنشاد شعره بديوانه حتى نراع روعة شديدة بموسيقاه ، وهي روعة ترد إلى احتفاظه بخصائص العبقرية الموسيقية لشعرنا العربيّ ، الذي يحتل فضاء الذاكرة , كما ترد إلى روح الصدق في القول والتجربة الإبداعية ، مما يُفجر إشراقاته ، ويجدد طاقاته الكامنة في أعماقه .
بـنـيــة الـنــــص
ويحملنا الديوان بنصوصه الشعرية إلى آفاق رحبة من الفن ، فنحن أمام شاعر يغترف من الموسيقى ما يشاء , حيث تلعب القافية دورًا واضحاً في غنائية النص ، وهي تأتي بشكل اختياري متحرر ، متنوع لتنشيط التيار الغنائي ، بل تتجاوز القافية ذلك إلى وظيفة دلالية ، هي تحديد مركز الثقل بين الدوال ، بما تعقده من مسافات زمنية ، تـُسهم في تكوين البنية الإيقاعية ، المرتبطة بالبنية الدلالية العامة للقصيدة . يقول شاعرنا تحت عنوان : (المجد والذئاب) : (أيعقل أن يساق المجد يومـًا / لمن وهبوا الغباء بلا حساب ؟./ ذئاب إن رأوافي الأرض كلبًا / أسود لو نأى طيف الكلاب).
هكذا تبدو قدرة الشاعر الخفية على إحياء الحقائق المُطلقة ،التي تعيش في أعماق أعماقه ، وتسبح في أفاقه ، هذا يفسر لنا لماذا قيل دائماً إن الشعر هو فن التعبير عما لا يستطيع المتكلم العادي التعبير عنه ، ومهما يكن من أمر فإن المتلقي قلما تحرك أحاسيسه أصوات طارئة ، لا تكون ناتجة عن تجانس بينها وبين المشاعر التي تعبر عنها , إذ تتداخل هنا :(الأصوات ، والمشاعر ، والمعاني) مع تلك التنسيقات الصوتية القائمة على (التوازي ، والتساوي) , ليكون الموقع في القلب ألطف ، و بالطبع أليق ، ثم انظر إلى الشاعر وتوظيف الأحرف في بيتين ، ثم انظر إلى المادة الصوتية التي عبر بها عن ذوقه وميوله وأحاسيسه ( ) .
والبيتان من البحر الوافر التام : مفاعلتن مفاعلتن فعولن في كل شطر وتأتي ساكنة اللام (مفاعلتن)( )، وليس ثمة تدافع بين البناء اللغوي ، والإطار الموسيقيّ ، وإيقاع البيتين يأتي هكذا :
(مفاعلتن) (مفاعلـْتـن) (فعولن) *** (مفاعلتن) (مفاعلتن) (فعولن)
(//o///o) ( //o/o/o) (//o/(o *** (//o///o) (//o///o) (//o/(o
(مفاعلـْـتن)(مفاعلـْتـن)(فعولن) *** (مفاعلـْـتـن)(مفاعلـْـتـن)(فعولن)
(//o/o/o)( //o/o/o)(//o/o) *** (//o/o/ o)(//o/o/o)(//o/ o)
وعلاقة الإطار الموسيقي بالتجربة علاقة وثيقة ، ولا يمكن أن نهمل قيمته في تنظيم التجربة والسيطرة عليها ، لكننا لا نستطيع أن نعطيه قيمة مستقلة عن التجربة ، فالإطار عندما يتشكل ، ويصبح له وجود بالفعل تكون له طبيعة جديدة , أو طبيعة خاصة تتصل بنوع التجربة ، وبطبيعته دون أن يفارق جوهره ، والإطار يؤثر بالتجربة ،ويتأثر بها ، وكلما اختفى أثر كل منهما في القصيدة ، يصبح هذا دليلا ً على أن التفاعل بينهما كان صحيحًا وتامًا ( ). ومفاخر الشاعر في ديوانه جمة ، وجهوده الإبداعية متصلة فهو يخاطب مدير مديرية الثقافة (بكفر الشيخ) الأستاذ « محمد الديب » عام 1980م تحت عنوان (حتام السكوت ؟) مشددًا على أن بيت الثقافة هو بيت الحياة ، فيهتف : (يا " ديب " حتام السكوت ؟ / والجهل حي لا يموت./ بيت الحياة قضى هنا / وبكت عليه العنكبوت). فإذا ما قضى بيت الثقافة نحبه فلا حياة بعد ذلك للعقول. والبيتان من مجزوء الكامل( )، والبصر يغرق في هذه الكثرة من المناظر ، والصور الشعرية الجميلة .
مـن وحـي المـــــرارة
يقدم شاعرنا لقصيدة (من وحي المرارة) التي جعلها عنوانـًا لديوانه فيقول:(في صبيحة يوم الثامن والعشرين من ديسمبر عام 1983م، حانت لحظة الرحيل عندما أذنت الباخرة بالإقلاع من ميناء السويس ، إلى ميناء العقبة ، فكانت هذه الأبيات)،(ص 91) ، ويهتف : (وطني يا بحر الأشجان/ يا حبة قلبي وكياني ./ أدعوك فهل تسمع صوتي / أنات تلهب وجداني ؟).
وتتوالى الأبيات تبحث عن حلم مغتصب ، تجابه كل التحديات ، بلغة مغموسة بالمرارة ، تغوص في الأغوار ، تحقق الإبداع ، وتزفه إلينا بغير سياج ، تتحرك في كل الاتجاهات ، وتختصر كل المسافات : (حبي يا وطني لا يخفى/ يعلمه القاصي والداني / لكن رحيلي كي تنــــأى / عن شمس نهارك أحزاني). يقول شاعرنا : وتمر الأيام وتشاء إرادة المولى أن يؤوب المسافر ، ليجد نفسه من أهل الكهف ... المبدأ السائد ، نعم نقر لك حقك ، ولكن لماذا نعطيك إياه ؟ ، فاكتملت القصيدة :(وطني أحزانك ملء دمي / ولهيبك يحرق أركاني ./ أشتاق علاك فلا ألقى / إلا إذلالي ... وهواني).
تتحرك أشرعة الشاعر دون أن يجرفه التيار ، ترتجف ، لا تكف عن الرحيل ، تزور كل المواني ، تفر من الملل والضجر والسأم والعقم , بحثـًا عن الخصوبة ، تهاجر من دروب العتمة , إلى الصحو. وتبقى الكلمات الممرورة كجذوة النار المسهدة التي تطلع على الأفئدة ، تومض فينا رويدًا رويدًا فتكبلنا بالأسرار ، تبحث فينا عنا ، نحاول الفرار من بين براثن (المرارة) والوجع دون فائدة ؛ فالمشاعر مترعة بـ(المرارة) ، والأبيات لا تعرف الصور الخادعة , أو الأفكار المضللة الكاذبة ، والشاعر لا يذعن لليأس , حتى لا يضيع في الدروب والمسالك , أو يقع في المهالك ، وهو لا يُهادن ، ولا يخون ؛ لأنه مخلص أمين :(ولأني أخلص في حبي / أبغيك منار الأوطان)،هكذا تكون الشفافية ، ولها عند شاعرنا أدلة قاطعة ، وبراهين ساطعة : (أحرام قطرك في ظمأي/ وحلال نيلك للجانــي).
وتتحول القدرة على الإبداع إلى إرادة تعكس روح الصمود والمقاومة بعيدًا عن المناورة والمساومة ، فالنيل مصدر الحياة يتم اغتياله ، والجاني يستنزف رحيقه ، وتعود إلى الذاكرة مقولة (أبناء مصر): (مصر هبة المصريين)، ومقُولة « هيرودوت » الشهيرة :(مصر هبة النيل) ، فهو الحياة أو الموت ، الوجود أو العدم ، الازدهار أو الاندثار ، العمار أو الخراب ، يعود شاعرنا للنيل ساحر الوجود بحرقة الفقد ، يخترق المجهول ، يسبر مجالات الواقع ، يعيد تجميع أشلاء الوطن بكلمات كالولادة ، كالبعث ، في زمن تتم فيه أسوأ أنواع الانكفاءات والنكوص باسم التحديث , أو أوهام الحداثة ، يلملم الشاعر قربانـًا للذاكرة ، النيل الخالد الذي أطلق عليه المصريون القدماء (نوس) و(نوف) و(نون) وقت الفيضان ، أي : الرائع ، وأطلق عليه « هوميروس » شاعر الإغريق الملحميّ مُبدع الإلياذة والأوديسا (ديابتنس) أي : يخرج من السماء أو المطر، أو هبة السماء , ولقبه العرب المحدثون بـ(الفياض) و(المبارك) ، أصبح النيل غريبًا عنا ، وهو اغتراب جمعي يحمل المعاناة ، والقهر ، والموت :(ما أنت وما معنى وطني/ لو يقضي عدل الميزان ؟).
كثيرة هي القصائد التي تكلمت عن الوطن من زاوية النظر الضيقة فلم تفلح في الارتباط بحركة النفس ، أو إضاءة الأبعاد : (الدلالية ، والإيقاعية ، والتركيبية)، باستثناء قصيدة رثاء البصرة لـ« على بن العباس بن جريج » الروميّ الأب ، الفارسيّ الأم ، البغداديّ المولد (835م - 987م) القائل :
دخـلوهـا كـأنهـم قـطــع اللـيــ ــــل إذا راح مـدلـهـم الـظــلام .
مـا تذكـرت مـا أتى الـزنـج إلا أوجعـتنـي (مـرارة) الإرغــام) .
لقد ختم الفنان الشاعر« زينهم البدوي » قصيدته بنفس القوة التي بدأ بها، بعد عرض مكثف لكل جوانب القضية ، ونسج محكم لمادتها , واتساق موفق للتراكيب اللغوية , التي تؤدي وظيفتها في نقل رؤيته ، وشحذ فكرته ، ولا وقت عند شاعرنا للتكلف ، أو التصنع .
وللصورة الفنية دور إيجابي في بناء القصيدة ، وهي ترتبط بالتركيب اللغوي ، وهما هنا بمثابة السياق الشعري ، الذي يُفضي إلى البنية الكلية للنص ، ناهيك عن الأبعاد : (التشكيلية ، والموسيقية ، والدلالية) للغة ، التي لا تنفصل عن الكل الجماليّ ، فما معنى الوطن بدون العدل ؟ ، هكذا تتصل السماء لديه بالأرض التي تغلي , ليقيم شاعرنا المنارات التي تضئ الدروب المعتمة ، والديوان بصفة عامة نهر من خير لا ينفد ، تعلو فيه قيمة الإنسان , ويمتاز بحسن الصقل , وبراعة الاتزان .
(4) صابــر مـعـوض ، و : (مـا قـالتـه نـظـرتهـا الأولـى)*
الـجـوامــد والصـوامـــت
عندما قال الناقد الإنجليزي المشهور « ماثيو أرنولد » :(إن الشعر هو نقد الحياة ، وأحسن الشعر هو الذي يقدم لنا أجمل تفسير للحياة الإنسانية)، أثار ذلك عليه زوبعة من النقد ، لكن الشعر لكي يكون من الطراز الأسمى لا يكفي أن يرفه عن النفس ، أو أن يكون حافلا ً بالموسيقية ، مترعًا بالأخيلة ، بل يلزم أن يعيننا على تفسير مشكلاتنا الإنسانية ، ومسائلنا الأخلاقية ، والمقصود بالأخلاق هنا : الارتفاع فوق سفاسف الحياة وصغائرها ، والسيطرة على عَالـَم ٍشاسع من عوالم الروح .
وديوان(ما قالته نظرتها الأولى) للشاعر« صابر صبري معوض »( ) يتميز بجمال الصياغة ، وإشراق الديباجة ، يهز النفس من أعماقها وسكونها ، ويثير رواكدها وشجونها ، وفي الديوان سحر تتحرك له الجوامد ، وتنطق الصوامت والشواهد ، وتنجلي الأسرار والغوامض
ويرى بعض النقاد أن الكتب التي ترضينا وتمتعنا ونستريح إليها ، هي الكتب التي نوافق مؤلفها على وجهة نظره ، ونذهب في الحياة مذهبه ، ونقف من مشكلاتها موقفه . والناقد في العصر الحديث يتزود بأسلحة كثيرة من علم النفس ، وفلسفة الجمال ، وعلم الاجتماع ، ويتحصن بالتاريخ ... والقائمة طويلة ، ولكن النقد - بحسب« علي أدهم » - شيء مردود إلى الذوق والبصيرة ، والناقد كالشاعر يولد ولا يُصنع ، ولقد كان بعض النقاد يفتن في اختيار الصفات والنعوت للمؤلفين ، وخلع الألقاب عليهم ، وهُم كذبة أدعياء ، ولم تسلم أحكام كبار النقاد من المآخذ ، ولم تبرأ من العيوب ، ومن الواجب على الأقزام أن يتريثوا قبل أن يضفوا على أنفسهم برد الأستاذية ، ويجلسوا مجلس القضاة والمحكمين .
وشاعرنا في ديوانه الذي بين أيدينا يستلهم التاريخ ، ويتجلى ذلك في قصيدة : (بابل)( ) يحلق بنا في عطر الشرق ، يحدثنا عن الفتح الأمويّ ويسأل : (فمن المذنب يا بابل ؟ .. نحن أم السفر النبوي)، ويرى (أن الحرية محض سفاح).
وهو يستخدم التضمين القرآني في قصيدة من قصائده فيقول : (رب السجن أحب إليّ / من طاعة هذا الإخشيدي( ) ، العائد في يده سوط / أعنف من نهد امرأة بدوية). ثم يصرخ الشاعر :(لكن السيف الخائن لا يمكنه إلا أن يخمد في قلب الأمة).
وللشاعر قصائد في العشق والهيام منها قصيدة : (حنين) ، و(زهرة الحي) ، وفي قصيدة بعنوان : (رثاء) يخاطب الرئيس الراحل الفلسطيني « ياسر عرفات »:(سقط الغصن فهنت عليهم .. ورحلت طليقـًا منتشيًا ، تنعم بجنان خضراء ، تسعد بلقاء نبيك وعليّ( ) والفاروق( ) وحمزة ( ) والخنساء( ))، ثم يرفرف في أجواء العصر الجاهلي ، ويربطه بالحاضر : (ما أسوأ هذا الزمن الحامل في جعبته بسوسًا ( ) أخرى)...(يا عرفات الآن تموت أخيرًا فتبسم ، قايضت حياتك بحياة أسمى ، فظفرت بعيشك بين الشهداء) .
ثم يعود إلى عالم الحب في قصيدة بعنوان : (لموتي يغني القمر) حيث يتحول الحب إلى شعور نفسي عميق ، يفعم القلب غبطة وحبورًا ، ويملأ الجوانح عزة وسرورًا ، والنفس سلامًا وسكينة ، والحياة أمانـًا وطمأنينة ، فالحب بحسب الدكتور« عبد القادر المهندس » صاحب كتاب : (تأملات في الأدب والحياة) - هو الشعلة المُقدسة التي تنبثق في دياجير النفس البشرية ، فتفعمها نورًا ، وجمالا ً، وقدرة على الكفاح والصمود ، وهو - الحب - عند الشاعر « صابر معوض » : (لقاء عشقناه منذ الصغـر) ، وهو حب الوطن لكن (لسان الأمة صار عقيمًا) ، وهو يعلل لذلك فهو : (لم يعد ينطق شعرًا بعد معلقة بني تغلب( )) ، وهو يرى أن (الخيل النائمة بمكة لن تذهب يومًا لتيمم وجهًا نحو فلسطين)، ثم انظر إلى استخدام اللغة ، فالخيل : لا واحد له من لفظه كالقوم ، والرهط والنفر ، وقيل مفرده خائل ، وهي مؤنثة ، والجمع خيول ، والتصغير خُيَيل ، وسميت الخيل خيلا ً لاختيالها في المشية ، لكن الفارس الخيال ترك الجهاد ونامت خيولنا ، والخيل : الكبر ، والعجب بالنفس ، فنحن في خيلة الآن أي في كبر وإعجاب بالنفس .
والشاعر يعرف ما وراء الحديث بكلمة ، فالمؤمن مرآة أخيه ، أبيّ ، نقيّ ، تقيّ ، لا يحب الضيم ، ورع يهون كل شيء عنده في سبيل الحفاظ على كرامته .
وهو سخي ليس لنفسه ما ملكت يده ، حيي للمستضعفين ، يصعر خده للمستكبرين والمغالين ، وهذه الطباع تنعكس على إبداع شاعرنا ، يشعل بها مشعل الأمل ، مما يذكرنا بقول « ابن نباتة السعدي » : (فالنار بالماء الذي هو ضدها ... تعطي النضاج وطبعها الإحراق)، وهو ما يُذكرنا بمأساة (الأندلس) و(صقر قريش).
ثم يدخل بنا في(الوطن المقبرة)، ويسأل :(كيف يكون عدوي صهري ؟ ، كيف يقاسمني أرضي ؟)، ويتم تعميق الرؤية الشعرية في القصائد فلا تنتهي الدلالات البعيدة ، والتجليات المصاحبة للوحي الدافق ، والرؤية المركبة ، والأصوات التي لا تضيع في الزحام .
وتجربة شاعرنا ببعدها الوجوديّ ، وارتباطها بالمكان الذي يعيش فيه العرب تتفتح بها وفيها الحواس بوصفها شرفة للجسد ، نطل منها على العالم المحيط بنا ؛ لنقيم علاقة معه ، مما يؤكد حقيقة ساطعة ، مفادها أن الصوت الأدبيّ المتميز ، والحس الشاعريّ المخمليّ ، الغير متحيز ، يثبت وجوده ، وينفي جموده ، فـ(الذي يزمر لا يخفي ذقنه) كما يقولون .
والكلمات المشرقة الحارقة في ديوانه لا تغيب ، ولا تخف وقدتها أبدًا ، ويطول بنا الأمر إذا رحنا نقف عند الخصائص الصوتية لشعر « صابر معوض ».
والديوان يعايش اللحظة التاريخية ويعانقها ، ويتفاعل معها ، مما يسهم بشكل أو بآخر في منح تجربة الشاعر : (خصوصية ، وخصوبة ، وعذوبة) ، وفي عبارة أخرى أشد وضوحًا وأكثر تحديدًا ، لقد كشفت القصائد عن الكثير من الأفكار التي تسري في جوانب شعره ، وتعصف في نواحي أدبه من أضاليل الأماني ، وأكاذيب المجتمع التي يتعرض لها الناس ، وتثير مشاعر الفزع والخوف لديهم ، نراها في كلمات تنطلق من عقالها بغير كابح ، فيطوف بنفوسنا طائف من الحزن لما يجري ، وتطفر الدموع من أعيننا لبلاغة التعبير ، وقوة الأداء ، وتراسل الحواس ، ومهارة التصوير :(فقد أرضعنا الزمن أساه) في قصيدة بعنوان :(الغـدر يرتد وحيدًا).
وفي قصيدة بعنوان : (اختزال) يميل شاعرنا إلى الصراحة فيقول : (أدركت بعد ضياع عمري طامعًا في النصر أني عشت في وطن الهزيمة)، فهو يأخذ المواقف الحياتية كما هي ، لا يرتق بها فتقـًا ، أو يصلح بها معوجًا ، وهو يختزلها في الصراحة ، والجرأة ، وصدق التصوير .
وفي قصيدة :(أجراس الرحيل) يبدو الشاعر تقليديًا ، فالصور الذهنية المعهودة موجودة . وفي (نشيد الانتفاضة): يجري شاعرنا على التقاليد المتبعة ، ويردد فيها المعاني المطروقة من الكر والفر ، كما يستخدم الجحفل : الجيش الكثير .
وفي قصيدة بعنوان : (موعـد) يعبر عن العواطف الموارة في الحب ، فيستثير ملكته الشعرية ، ويحلق ويرتفع ، يسافر خلف أشجانه وأحزانه ، ويقول : (فلا الأمطار ترهـقـني ، ولا الإعـصـار أدمانـي)، وهو لا يعمل على إثارة العاطفة وحدها ، وإنما يقدم لنا مادة ثمينة للتفكير والتأمل ، ويحدد مداها ، ويحيط بأطرافها بمنطق سليم ، وطبعٍ لا تشوبه شائبة من قصور . يقول « القاضي الجرجانيّ »: (يختلف الثوب الشعريّ ، وتتباين فيه أحوال الشعراء ، فيَرق شعـر أحدهم ، ويصلب شِعـر الآخر ، ويسهل لفظ أحدهم ، ويَتوعر منطق غيره ، وإنما ذلك بحسب اختلاف الطبائع ، وتركيب الخـَلق ، فإن سلامة اللفظ تتبع سلامة الطبع ، ودماثة الكلام بقدر دماثة الخِلقة ، وأنت تجد ذلك ظاهرًا في أهل عصرك وأبناء زمانك).
وفي قصيدة :(عودة الحلم الشريد) يقول : (جاءت عيونك من دروب الشوق تحمل لي الأسى ، تلقي على اللوم ، تزداد الشجون)، ويقدم في القصيدة رؤية متفردة ، يرى الحياة فيها في ضوء الشعـور والوجدان ، ويلمح الوجود بنواظر الشاعر الإنسان ، ويسلك طريقه إلى شغاف القلوب ، ومقاصير الأرواح والخطوب .
وفي : (لقاء العيون) تتحول القصيدة إلى لافتة ، يودع بها الشاعر الأماني العذاب ، وفي (بحار التمني) ومواجهة الصعاب ، يبني فكرته على الجبر والاختيار ، وهي قضية فلسفية ، يتابع فيها الفكرة ، ويُلاحقها في وثباتها المتتابعة ، ويسجل تقلباتها ، ويقيد شواردها ، ويرسم ظلالها ، ويجلو أسرارها ، ويكشف عن حقائقها ، ويتوغل في حدائقها ؛ فيقول :
(حياتي جراح ، بدون اختيار أتيت إليها ، وأرجع منها بدون اختيار).
والقصيدة تظهر أهمية اللفظ في الصياغة الشعرية ، حيث يقول « ابن خلدون » :
(اعلم أن صناعة الكلام نظمًا ونثرًا ، إنما هي في (الألفاظ) لا في (المعاني) ، وإنما (المعاني) تبع لها وهي أصل ؛ فالصانع الذي يحاول ملكة الكلام في النظم والنثر ، إنما يحاول في (الألفاظ) يحفظ أمثالها من كلام العرب ؛ ليكثر استعمالـُها وجريها على لسانه ، حتى تستقر له الملكة).
ومعنى ذلك أن مناط الأهمية هـو : (أسلوب عرض الفكرة)، لا (الفكرة) في ذاتها ، فمع القصيدة الجديدة تغيرت مستندات الشعرية ، وخرجت من طور المحايثة ، إلى طور المفارقة ، وتشكلت مقومات الحال الشعرية تشكلا ً يختلف عما كانت عليه جذريًا . وأصبح التوزيع الصوتيّ مقتضيًا لبناء جديد ، يتواءم فيه مع التوزيع الدلاليّ ، والإيحائيّ ، فانطلقت حركة صوتيّة جديدة هي الحركة " الفونولوجية " على وجه اليقين .
وتتوالي قصائد الديوان لتؤكد هذا المنحى ، فالمعاني بحسب « الجاحظ » تحيا بالألفاظ ؛ لأن : ((الألفاظ) هي التي تجعل الخفي منها ظاهرًا ، والغائب شاهدًا ، والبعيد قريبًا ، وهي التي تلخص الملتبس ، وتحل المنعقد ، وتجعل المُهمل مقيدًا ، والمقيد مطلقـًا ، وعلى قدر وضوح الدلالة ، وصواب الإشارة ، وحسن الاختصار ، ودقة المدخل يكون إظهار المعـنى) .
والديوان بصفة عامة يمهد الدروب للمتلقي ، ويفرشها بعشب المودة ، ويكسر جدار الألم ، ويرسو على شواطئ الحقيقة الشافية .
(5) طـارق الـطـبـيلــي و : (في وقت آخــر غـيـر الليـلـة)
شـعـر الأقـنـعــة
يختلف إطار الشعر الحديث من الناحية الشكلية عن الشعر العمودي( )، ويختلف من ناحية مادته عن التراث الشعري ، الذي يشكل صلب الأدب العربيّ الذي درجنا عليه ، وبالذات في تنوع أصواته ، أي في تجاوزه الدور التقليديّ للشاعر في المجتمع ، والذي استلزم صوتـًا محددًا عالي النبرة ، ممثلا ً لأفكار ومشاعر عامة - في الغالب - إذ أصبح الشاعر يميل اليوم إلى قول الشعر المقروء (أو المهموس ، أو شعر الوجدان)، وأصبح يفضل هذا الصوت الجديد الذي أخذ مكانه إلى جانب الأصوات الأخرى ، التي أتت بها حركة التجديد مثل : (شعر الأقنعة) أي الشعر الذي يتقمص فيه الشاعر شخصية أخرى ، ويتحدث بلسانها ؛ فيُنوع بذلك من مستوى لغته ، وصوره ، وتركيباته الفنية (وهو ما يسميه « ت . س . إليوت »( ) بـ(الصوت الثاني للشعـر))، ومثل الشعـر المسرحي أي الشعـر الذي يختفي فيه الشاعر تمامًا وراء شخصيات الدراما ( ).
وفي ديوان الشاعر « طارق الطبيلي »( ) (في وقت آخر غير الليلة) الصادر عام (2008م) ، عن دار حسان للنشر والإعلان ، بشربين ، دقهلية ، يقيم شاعرنا سرادقات لغته ليخطب ود المحبوبة من خلال الحرف , واللفظ المبين , ويحاول جاهدًا العمل على تعميق الحياة , إيمانـًا منه بأن الشعر الحقيقي عنوان للنفس البشرية الصحيحة ، يـبـقى ما بقيت الحياة تنبض في الإنسان بالمشاعر النبيلة ، والعواطف الجياشة ، والأحاسيس الرقيقة التي تطبع النفسَ ، وتحقق المراد ، وتصفي الذهن والفؤاد ، فيسير شاعرنا على درب القدماء أحيانـًا ، ويخالفهم أحيانـًا ، فالعربي القديم كان ينطق بالبيت من الشعر ارتجالا ً فطريًا ، يناجي الربوع والأطلال فتجيبه آثارها ، وتكلمه أحجارها ، كأن في لسانه قوة من السماء .
وبرغم كثرة موضوعات الشعر ؛ فإنه قل أن تجد من يسمى شاعرًا بحق ، كما يقل من لا يريد أن يكون شاعرًا بالباطل ، ومقياس التمييز بين الحقيقي والباطل هو : (الأصالة التي تنبع من كل منهما) . ولا عجب إذا كان أمر الشعر الحقيقي على هذا النحو أن تقوم دولة الشعر عند العرب منذ زمن سحيق ، إذ كان في هذه الحقبة شعراء ، يماثل الواحد منهم عصرًا بأكمله .
والشعـر العربيّ هو حقـًا وصدقـًا يمثل حكمة العرب ، وذلك لأنه إذا كانت الحكمة تعني الكلام الذي يقل لفظه ، ويدل معناه ، وأنها حصيلة التجربة بعد طول تأمل للوجود ، وأنها المرادف لكلمة (فلسفة) عند اليونان ، كانت هذه " الحكمة " تعني " الشعـر " عند العرب ، إذ ليس الشعر العربيّ إلا ما قل لفظه ، ودل معناه إلى درجة أن الأستاذ « عباس محمود العقاد » (1889م - 1964م) كان يقول : (البيت الواحد من الشعـر يُعادل خمسين صفحة من القصة ، إذ أن هذا الشعر لا يقوم إلا على تأمل الإنسان للظواهر الطبيعية ، وعلاقاتها بالنفس البشرية ، وإنه كـ(الفلسفة) كلاهما يعمل على تعميق معنى الحياة ، بل الأكثر أن الشعـر في جملته يشمل الحكمة ، حسبما جاء في خير الأقوال قول نبينا الكريم :(إن من الشعـر لحكمة))( ).
مـكـانـة الأنـثـى
الشاعرة « ولادة بنت المستكفي »( ) (ت 1091م) شاعرة العصر الأندلسي تعلن على الملأ فلسفتها الحياتية في الحب فتقول :
أنــا والله أصلـح للمعالــــــــي وأمشـي مشيتي وأتيـه تـيهـا
أُمكن صاحبي من صحن خدي وأعطى قبلتـي مَن يشتهـيهـا
ولو استبدلت كلمة (صحن) بكلمة أخرى لوفرت علينا المشوار . ولو أنها قالت :" أمكن صاحبي من لثم خدي " لهان الأمر ، لكنها أرادت غير الذي نريد . وشاعرنا « طارق الطبيلي » أراد هو الآخر غير ما نريد . إذ تتبلور مكانة الأنثى عنده بالديوان ، فهو يناديها بـ"سيدتي" في قصيدة بعنوان (كيف ؟) :(الماء المالح يروى القلب الجامح يا سيدتي)، وفي قصيدة (الشعـراء) يقول :(قالوا يا سيدتي : إن الشاعر وحي الله في قلب الإنسان)، وتتكرر كلمة " سيدتي " كثيرًا في القصيدة والديوان ، ففي (قصيدة الخريف) يقول :(لا تستهويني سيدتي عيونك). ويناديها بـ(مولاتي) في قصيدة بهذا العنوان : (مولاتي) ، فيقول :(يا مولاتي هذا أسفي بين يديك / يا مولاتي أعلن أسفي) ، وفي ختام قصيدة :(أنت ورفاقي) يقول :(يا مولاتي كل الأبواب بدون عيونك تغلق) ويناديها بـ(يا عصفورًا)، فيقول : (يا عصفورًا يصدح في روضي) ، كما يناديها بـ(يا صاحبتي) : (يا من أدخلت الفرح بقلبي يا صاحبتي) ، وذلك في قصيدة بعنوان : (روضة) ، ويناديها أيضًا بقوله : (يا أنثاي) :(أي الأحلام تدور برأس الأنثى في الدور العلوي) (زاهد فيما عندك يا أنثاي)، وفي مكان آخر يناديها : (يا حلوة النهدين / أنت جميلة جدًا يا حلوة النهدين)، أو يقول : (يا فتنة مخلوقة في أنثى).
العـُــــرف الشـعــــريّ
تتكرر كلمة " النهد " في قاموس الشاعر ، فيقول في قصيدة بعنوان (إليك) يطلب من محبوبته أن تداري نهديها بعيدًا عنه ، ثم يقول : (هذان النهدان أمامي ... يا حلوة النهدين ... وأمام النهدين)، وفي قصيدة : (غزال) يهتف لـ(نهود سعاد)، وقد تغزل الشعراء قديمًا بهذا الاسم( ) ، وهو من الأسماء الشعرية التي جرى عرف الشعر العربيّ القديم على ذكرها في المواطن العاطفية ، ومن ذلك أيضًا :(زينب ، ومي ، وهند ، ودعد ، والرباب)( ).
وقد ارتبط عدد من الشعراء بأسماء وألقاب ، وكنى نسوية ، دون أن تشكل متعة حسية ، ولم يكن الارتباط لشخوصها الإنسانية ، وإنما لكونها تـُشكل في وجدانِهم جزءًا من ذكرى الماضي الذي كان يهبهم وقتـًا حُلميًا سعيدًا ، يواجهون به قسوة حاضرهم ، وخوف مصيرهم المحتوم المُعجَل ( ) . ومن هؤلاء الشعراء ارتبط :
1 - « امــرؤ الـقـــيـــــس » بـ :(« فاطمة » أو « عُنيزة »).
2 - « طـُرفــة بـن العـبـــد » بـ : « خــولــة » .
3 - « زُهير بن أبي سُلمى » بـ : « أم أوفـى » .
4 - « عـنتــرة بن شـــداد » بـ : « عـبـلــــة » .
5 - « الحـارث بن حِـلـزة » بـ : « أسـمـــاء » .
6 - « عَمـرو بن عَجـلان » بـ : « هـــنـــــد » .
7 - « المـُـرقــش الأكـبـر » بـ : « سـلـمـــى » .
8 - « النابغــة الذبـيانـي » بـ : « نـُــعــــــم » ...
وفي قصيدة (بعد الموعد) يقول الشاعر « طارق الطبيلي » : (ويضاء المصباح / أبعث منه تحياتي / للعينين / للنهدين)، و(أرقب نهدك حتى ينمو / وأنا أول من شاهد نهديك)؛ فيذكرنا « الطبيلي » بتيار الغزل الحِسيّ ، وبمفردات الشاعر « نزار قباني » ( ) صاحب ديوان (طفولة نهد)، والذي بالغ في تتبع لذائذ الحياة في مظانها القصية ، وأفرط في تعاطيها ، وألقى باللغة في مهاوي الجسد ، ومن حقها علينا أن نسمو بها ولا نهبط ، وأن نرتقي بها ولا نسقط .
وحين نقارن بين « طارق الطبيلي » و« نزار قباني » نجد أن الشاعر « نزار قباني » يستخدم في قاموسه اللغويّ لفظة " نهد " أكثر من استخدام الشاعر « طارق الطبيلي » , فإذا رجعنا إلى « نزار » في ديوانه : (قالت لي السمراء) لإحصاء لفظ " نهد " ومرادفاته ؛ لطالعتنا المفردات " النزاريّة " المتعددة في النهد ، ففي قصيدة : (ورقة إلى القارئ) يقول : (ولولاي ما انفتحت وردة / ولا فـُقِع الثدي أوعربدا)، وفي قصيدة : (مذعورة الفستان) يقول : (وأقتحم النهد وأسواره / ولم يعد من ذلك الكوكب). وفي قصيدة : (الموعد الأول):(وشَجعتُ نهديك فاستكبرا / على اللهِ حتى لمْ يَسْجُدا) (ص 45) . وفي قصيدة : (أمام قصرها)(ص 53) يقول : (من أنت ؟ وارتاع نهدًًٌُ / طفلٌ كثير الفضول). وفي قصيدة :(اسمها) (ص 68) يقول :(كحرير النهد المهَزْهز .. فيه / علّق الله قطرة من عقيق). وفي قصيدة : (غرفتها):(وثديك الفليّ كوم سنا / يُغـْمى على البياض منه القماش), وفي قصيدة : (مساء):(وفي النهد يعـلك طوق الحرير/ وفي نخوة الحلمة الغاضبة). وفي : (سمفونية على الرصيف) (ص 100):(وداعبت نهدًا كألعوبة / تصيح إن دغدغها إصبعان)، ويقول :(نهدًا لجوجًا فيه تيه الذري/ وما لدى ربي من عنفوان). وفي (ص 103) في قصيدة : (إلى مصطافة): (لأفرط حباب توت السياج / وأطعم حلْمتك الناهدة), وفي قصيدة : (أحبك)(ص 111) : (أحبك تعتزين في خمس عشرة / ونهدك في خير وخصرك معتلٌُ). وفي قصيدة :(رافعة النهد)(ص 121) يقول : (رافعة النهد أحيطي به / كوني له أحنى من الخاتم) . وفي قصيدة : (نهداك)(ص 124) يقول : (سمراء صبي نهدك الأسمر في دنيا فمي / نهداك نبعا لذة حمراء تشعل لي دمي / فكي الغلالة واحسرى عن نهدك المتضرم / نار الهوى في حَلمتيك أكولة كجهنم/ نهداك وحشيان والمصباح مشدوه الفم / يا صلبة النهدين يأبي الوهم أن تتوهمي / نهداك أجمل لوحتين على جدار المرسم / مغرورة النهدين خلي كبرياءك وانعمي/ وغدا سيذوي النهد والشفتان منك فأقدمي / وتفكري بمصير نهدك بعد موت الموسم / نهداك ما خلقا للثم الثوب لكن للفم / مجنونة من تحجب النهدين وهي تحتمي). وفي قصيدة :(أفيقي)(ص 129):(مغامرة النهد رَوّي الغطاء / على الصدر والحلمة الآكله / لقد غمر الفجر نهديك ضوءًا / فعودي إلى أمك الغافله). وفي قصيدة :(إلى زائرة)(ص 135) يقول :(ونهدك الملتف في ريشه كأرنب إليّ يدني فمه / ما أنت ؟ ما نهداك إن قهْقَهَتْ / عواصفي وشهوتي المُلجمه)( ). وفي قصيدة :(مدنسة الحب)(ص 138): (أطعميه من ناهديك أطعميه / واسكبي أعْكر الحليب بفيه / نشفت فورة الحليب بثدييك / طعامًا لزائر مشبوه / إن هذا الغذاء يفرزه ثدياك / مُلك الصغير لا تسرقيه). وفي قصيدة : (البَغيّ)(ص144):(هذه جاءت حديثـًا سيدي / ناهدٌ مازال في طور الطفولة). ويقول :(نهدها منتظر جزاره / صابر حتى يلاقي قدره). ويقول : (نهدها حبة تين نشفت / رحم الله زمان اللبـن).
أما الشاعر « نجيب سرور » (1932م - 1978م): فيقول : (نهداك ومصباح أحمر / قمعا سكر / وتران لقيثارٍ أخضر / يا للأنغام اللبنية / النغمة ُترقصُ للنغمة / وأنا في صدرِك ثعبانٌ / مجنونٌ يلعق في الحلمة / حتى يَسكر) .
ويقول الشاعر « ماجد يوسف » في (فهارس البياض): (يلين الحروف يتأوه على النهدين).
ولست أدري ما هو السر في كلف هؤلاء الشعـراء بالحديث عن (النهد) في هذه الصور الحسية ، التي يشير أدب التحليل النفسي إلى أنها دليل شبقية عارمة ، وحس جسداني مستوفز ، وهناك مِن الشعراء مَن وظف لفظة " النهد " توظيفـًا مُعبرًا ، يقول الشاعر « صابر معوض » في ديوانه (ما قالته نظرتها الأولى):(رب السجن أحب إليّ / من طاعة هذا الإخشيدي ، العائد في يده سوط / أعنف من نهد امرأة بدوية) ، حتى في العامية المصرية ، يقول الشاعر « أحمد فؤاد نجم »:(سلامتك يا مه يا مهره / يا حباله وولاده /يا ست الكل يا طاهره / سلامتك من آلام الحيض / من الحرمان ، من القهره / سلامة (نهدك) المُرضِع / سلامة بطنك الخضره) .
المـســـار الفـنــــيّ
وربما لا نبعد عن الحقيقة كثيرًا إذا نحن رحنا نتتبع الشعر الحر، وثورته على نظام القصيدة العربية ، التي توارثت نوعًا من الهندسة العربية ، مع تطور الحياة ، وتغيرها في كافة المجالات :(المادية ، والروحية ، والذوقية)، فنحن نعيش بالتأكيد عصرًا مختلفـًا عن عصور التاريخ القديمة ، ونحن بالتأكيد - كذلك - نعيش علاقات مادية ، ومعنوية ، مباينة لنوعيات ما كان يعيشه أحياء العصور القديمة من علاقات ، فليست حياتنا المادية مشابهة لحياتهم المادية ، وليست همومنا الروحية هي همومهم الروحية ، وليس حسنا الفنيّ من نوع حِسهم الفنيّ ، أي أن كل شيء :(تطور ، وتحور ، وتغير)، فلماذا في الشعر وحده يبقى النمط القديم قابضًا على أعناقنا بلا فكاك ؟ ( ). ومن هنا فإن الشاعر الحديث دائمًا في صراع للتوصل إلى صيغة جديدة ، يستطيع أن يسمع من خلالها صوته إلى القراء - صيغة تمثل حلقة الوصل بين القديم الذي يثور عليه ، والجديد الذي يريد أن يأتي به ، أي صيغة ينفرد هو بها دون أن تنتمي لجمود القديم ، أو لشطط الحديث . والناقد الذي دائمًا ما يمثل الحساسية الجديدة لـ(القراء ، والشعراء معًا) عليه أن يدرك أبعاد هذه الصيغة ، وحلقة الوصل التي تُمثلها .
ومن الجدير بالذكر أنه يبرز في كل عصر أدبيّ عبقريّ يحدد المسار الفنيّ الجديد لجيله ، أو للجيل الذي يليه ، وأقصد به الفنان الذي لديه من الأصالة ، ومن الجرأة ، ما يدفعه إلى التغيير ، والإصرار على التغيير مهما كانت الصدمة ، التي يحدثها في البداية ، ومهما لاقى من عنت ونكران في أول الأمر . فهو واثق أنه سوف يثبت أقدامهُ تدريجيًا ، وأن من حولهُ سوف يتبعون خطاه ( ) .
الشـاعـــر والحــــرف
أخذ الحرف سبيله ليكون نسقـًا ثقافيًا خلال رصد ظهوره من الداخل الفكريّ , إلى الخارج الصوتيّ , أو الكتابيّ . حيث قسم « الرازي » الحروف إلى حروف : (فكرية ، ولفظية ، وخطية).
فـ(الفكرية): تسكن الداخل بوصفها صورة روحية في أفكار النفوس ، أي أنها جوهر داخلي .
أما (اللفظية) : فهي أصوات محمولة في الهواء ، مدركة بطريق الأذنين بالقوة السامعة .
وأما (الخطية): فهي نقوش بالقلم في الألواح والكتب ، مدركة بالقوة الناظرة ( ).
لكن شاعرنا وجد الحروف خرساء ، فخصها بقصيدة تحت عنوان : (أحرف خرساء) يقول فيها : (أحرف خرساء ، ونجوم خرساء / ليل حالك / نجم لا يشرق إلا بالظلمة والصبر المر) ... إلى أن يقول : (الأشياء فقدت معناها / العشق / الحب / الصدق) . وفي قصيدة (شعر) يقول : (ليس جميلا ًأن ينطق حرفًـًا هذا الثغر) .
ومن الشعراء المعاصرين الذين اهتموا بالحروف كشاعرنا الشاعر « حسن طلب » صاحب ديوان : (آية جيم)( ) إذ يرى بأن حرف الجيم من حقه الاستقلال بأبجدية كاملة ، لأنها سر الوجود :(خلاصة الأمر/ أن الجيم ليست مجرد حرف ما / في أبجدية ما / بل هي أبجدية قائمة بذاتها / إنها سر الوجود وكماله الشخصي). ويقول :(أجل لابد من جيم / لتركض خلف قسطلها / خيول الأحرف الأخرى)، ومن معاني " القسطل " : الغبار في الموقعة ، وشجر من الفصيلة البلوطية . ويقول « حسن طلب » أيضًا في ديوانه : (صدق الحرف الرجيم) . ومن هنا نتضح صورة الحرف لدى الشاعرين .
ويرى « ابن سنان الخفاجي » أن الحروف سميت حروفـًا ؛ لأن الحرف منقطع الصوت . وقيل : أنها سميت بذلك ، لأنها جهات الكلام ونواحيه ( ) ، وهكذا يختلف مدلول الحرف من شاعر لآخر، ومن عالم لآخر( ) ، وتبقى دلالة الحروف الخرساء من الأمور التي تفرد بها شاعرنا الذي يختم قصيدته (باللاعشق ، واللاحب) ، ومن نافلة القول أن الحب له سطوة تتحول الكلمات عن طريقه إلى نجوم ترافقنا على كل درب لا تضل المسار .