6 - شـعــر العـامـيــــة
مقدمة في شعر العامية .
« عـلي مـعــوض » ، و : (خــطـــــاوي) .
« فتحي البريشي » ، و : قصيدتان ، وديوانه :(غـُنا الشوارع).
مـقـدمة في شعـر العـاميــة المصريــة
العـامـيـــة : لهجة داخل إطار لغة عامة ، وبعض اللهجات العامية لها في الأدب مقام خاص مثل : "الكوكني" المستعمل في (لندن) بالنسبة للإنجليزية ، بينما لهجة "الباتواه" في فرنسا لا يُعترف بها .
ودراسة العامية دراسة حديثة قامت في العربية قديمًا ، ثم أحياها المستشرقون ، وتهتم المجامع اللغوية كثيرًا بمثل هذه الدراسات ، وقامت دراسات حول الفصيح في لغة العامة ، ومن أهم من ألفوا في هذا الموضوع : « أحمد تيمور باشا »(1871م - 1930م)( ) وله في هذا مُعجم مَعرُوف بـ(معجم الكلمات العامية). وكانت اللغة العربية تدخل مع الإسلام البلاد المفتوحة ؛ فترث لغتها ، إلا في البلاد ذات اللغة الهندية الأوربية الأصل ، كـ(الإيرانية ، والتركية)، وقد ظلت اللغة رغم إسلام أهلها ، وبذلك تختلف عاميتها كل الاختلاف .
وتشكل (العـامـيـة العـربـيـة) في العصر الحديث مشاكل أدبية ، وخاصة في موضوع لغة الحوار في المسرح ( ) .
ويسمى الشعر العاميّ في دول الخليج بـ(الشعـر النـبـطـي)( ). ولقد كتب النبط بـ(الإرمية)، وهي قريبة من العربية الأم المسماة بـ(الفصحى)؛ لأنها من اللغات السامية , ولغتنا تتفق مع سائر شقيقاتها (العروبية) السامية . ولقد افترض بعض الناس أن الموطن الأصلي لـ(الشعر النبطي) هو موطن الأنباط ، ولهذا نـُسب إليهم دون دليل قوي ينهض كحجة للتدليل على هذا الرأي ( ) .
ويرى بعض المفكرين أن تبقى اللهجات العامية في حيزها ونطاقها ، لتستخدم في أغراض الناس ، وشئونهم العامة العادية ، فهي لا ترتقي إلى مستوى مناظرة الفصحى( ).
وعن (خطورة استخدام العامية في الأدب) يذكر بعض المفكرين كيف أدى الانفصال بين الشعوب اللاتينيّة والجرمانيّة ولغاتها إلى الانفصال بينها وبين لغاتها الأصلية ، وموت لغاتها الأصلية ، وسيطرة اللهجات الشعبية ، والاحتياج إلى مُترجم بين جماعات أصلها واحد مثل : (إيطاليا ، وإسبانيا ، والبرتغال ، وفرنسا) من الأصل اللاتيني ، و(إنجلترا ، وألمانيا) من الأصل الجرمانيّ( ) .
وحركة " العامية المصرية " يظهر فيها وفي الإبداع بها - صدق التجربة ، وواقعية التصوير ، وخصوبة النفس ، باستثناء بعض النصوص الهزيلة التي لا يحسن أصحابها خوض غمار الإبداع . والنصوص العامية الشعرية العميقة الأغوار يعي أصحابها معنى الوجود الحقيقي ، وجوهر العطاء ، ويرجع ذلك إلى الموهبة ، والثقافة والقدرة على التقاط العناصر الحياتية الحية ، والتعبير عنها بأسلوب يضفى عليها روحًا جديدة .
وتختلف (العامية المصرية) عن فن (الزجل)، ذلك لأن " الزجل " أشهر فنون الشعر الشعبيّ ، وقد اتفق الدارسون على أن الأندلسيين( ) مبتكروه ، وكان أهل بغداد يسمونه (الحجازي) . وهو من حيث (اللهجة) نوعان : المزنم : وهو الذي يجمع بين اللهجتين الفصحى والعامية ، وهو أحط درجة من الثاني الذي يخلص للعامية ، ولم يعط اسمًا معـينـًا . ومن حيث(الموضوعات):
(1) الـزجــل : ما عالج الغـزل ، والخمر ، والزهـر
(2) البِلـيــق : ما عالج الـخـــلاعــــــة والــهـــــزل
(3) القـرفـي : ما كــان فـي الـهــــــجــــــــــــــــــاء .
(4) المكـفـر : ما كــان فـي المـواعــظ والحـكــمــــة .
ويمنح الزجل ناظمه كثيرًا من الحرية ، فأوزانه متجددة ، وقوافيه متعددة ، بخلاف غيره من فنون الشعـر الشعبيّ .
وبعض أنواع الزجل يدخل في صناعة الغناء ، والقول فيها أقرب من الشعر المنظوم ( ).
وقد كثـُر عند المصريين " الزجل " وتنوعت أشكاله ، وللمصريين أزجال ظريفة ، خفيفة الروح ، خفيفة الوزن ، واشتهر منهم :
(ابن عروس ( ) ، والشيخ النجار، والشيخ أحمد محمد القوصي( ) ، وعبد الله النديم ، والشيخ حسن الفرشوطي( )، والشيخ علي النابي( )، وحسن الآلاتي ، ومحمد إمام العبد (ت 1911م) ، وأبو بثينة ، ومحمد أنور نافع ( ) ، وعبد الفتاح البحرواي( ) ... ) وغيرهم .
ولطائفة من العوام وهم المسمون بـ(الأدباتية) أزجال لطيفة يسألون بها الناس ويقولون بعضها ارتجالا ً( ), وقد نشرت مجلة (المستقبل) زجلا ًعام (1927م) على لسان « جون بول » يُعدد فيه هفوات الحكم في مصر آنذاك ( ). كما كان (الزجل) موجودًا في (الروايات الغنائية الاستعراضية) ، ففي (أوبريت التالته تابته)، تأليف :(محمد يونس القاضي) تغني « منيرة المهدية »:(لو تعطي قرشك /لابن جنسك بكره يجيلك / ويبات في جيبك) ( ).
أما (شعـر العامية المصرية) فقد انتشر على يد عدد من الشعراء الرواد منهم :(بيرم التونسي ( ) - فؤاد حداد (1927م - 1985م)- صلاح جاهين - فؤاد قاعود - عبد الرحمن الأبنودي - عبد الرحيم منصور - أحمد فؤاد نجم ( ))، ومن الدقهلية الشعراء :(إبراهيم رضوان ( ) ، السيد حجاب ( ) - الراحل إبراهيم رضوان مجاهد ( )- فتحي البريشي)، ويعد الشاعر « مسعـود شومان » ( ) من رواد قصيدة النثر في العامية المصرية .
وهناك ما يعرف بـ(الشعر الحلمنتيشي)، وهو مزيج من الفصحى والعامية ، وهناك قصائد عُرفت باسم (المشعلقات)، أو(المشهورات)، نُظمَ الشعر فيها على غرار (المعـلـقـات) ، وقد اشتهر الشاعر الحلمنتيشي « حسين شفيق المصري »( ) الذي جمع بين الثقافتين : (العربية ، والتركية)، ومزج : الفصحى بالعامية ، ونسج على منوال الشاعر « عامر الأبنوطي الشافعي » الذي وصفه « الجبرتي » بـ(الشيخ المفلق الهجّاء)، وقد جدد « حسين شفيق المصري » وتوسع في هذا الفن ، حتى نسب الناسُ هذه الطريقة له ، وأصبح « عامر الأبنوطي الشافعي » في طي النسيان . وفي معارضة لـ« حسين شفيق المصري » لمعلقة « امرئ القيس » التي يقول في مطلعها :(قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل / بسِقط اللِوى بين الدخول فحومل)، يصب شاعرنا جام غضبه على المطاعم التي لا تخضع للشروط الصحية فيقول : (يبيعان مشويّ الطحال وتارة ً / يبيعان ممبارًا فخذ منه أو كل ِ./ كدأبك من أم الفلافلِ قبلها / وجارتها أم الخلول يا شيخ « علي »./ مطاعم مكروباتها تلدُ العـمى / لعين كثير الأكل والمتقلل)، ويعارض شاعرنا معلقة « طـُرفة بن العبد » التي يقول فيها :(لـ« خولة » أطلال ببرقةِ ثمهد ِ/ تلوحُ كباقي الوشم في ظاهرِ اليدِ)، فيقول ساخرًا :(لـ« زينب » دكان بحارةِ منجدِ / تلوحُ بها أقفاص عيش مقددِ ./ وقوفـًا بها صحبي عليّ هزارها / يقولون : لا تقطع هزارك واقعدِ)، ويعارض « أبا العتاهية » في قصيدته الشهيرة :(أتته الخلافة مُنقادة ٌ). ويخاطب زوجته قائلا ً:(أظن الولية ُ زعلانة ٌ / وما كنت أقصدُ إزعالها ./ أتى رمضانُ فقالت هاتولي / كتيبة ُجوز ٍ ؛ فجبنا لها . / وجبنا صفيحة سمنٍ وجبنا / لوازم ما غيرها طالها ./ ومن قمر الدين جبنا ثلاث / لفائفُ تـُـتعـبُ شيالها./ فقل لي : على إيه بنت اللذين / بتشكي إلى أهلها حالها ؟). ولقد ضمن هذا الفن صوته العميق المسكون بالضحكات والانكسارات( ).
واشتهر في الشعر الحلمنتيشي أيضًا الشاعر« عبد السلام شهاب » الذي يقول :(قالوا أحلت على المعاش / فقلت : عاش العدل عاش ./ بعد اثنتين وأربعين / من الشقا ما بدِّهاش)، وفي معارضة لبعض شعراء الكلاسيكية يقول :(أكاد أشك في نفسي لأني / لأول مرة أمشي أغني)، ويقول أيضًا:(ألا في سبيل العيش ما أنا فاعلُ / أديبٌ ، وبلياتشُو، وحاوي ، وفاعلُ . / هنا في يدي يا خلق سبع صنائع / ولكنني للهم لا المم شايلُ ./ تـُعـد ذنـُوبي عند قومي كثيرة ٌ/ ولا ذنب لي إلا الذي هو حاصلُ).
ومن الشعر الحلمنتيشي يقول الشاعر « محمد بهجت » في هلال رمضان :(أرأيت هلال الشهر ؟ فقال / الشيخ « جلال » : الله أعلم . / فعلام اللوم ؟ اجتمع القوم / لأمر الصوم ، ولم أفهم . / هل كان صيام الشهر قيام / الليل أمام التلفزيون؟. / أم كان الخير طريق السير / نسير إليه بغير عيون ؟. / مرحب بالتين وقمر الدين / شهر مبروك في التموين ./ أحضرت من النُقل صِحافا /أصنافـًا تتلو أصنافا. / وصنعنا منهن خشافـا / أواه .. نأكلهُ حافـا ./ فيخف الصومُ به ويهون/ صائمون ، صائمون والله أعلم).
ومن الشعر الحلمنتيشي يقول « شوقي أبو ناجي » شاعر المدائح والأهاجي :(كش المرتب عن أن يشتري بصلا ً/ أو أي شيء لزوم البيت ينعازُ / حتى صعُبت على البواب أقرضني / وكان لي عنده بالأمس إعزازُ / والآن قد هُنت والجزار يشتمُني / واليوم بهدلني في الفرن خبازُ)( ). ومن نوابغ الشعـر الحلمنتيشي الشاعر « ياسر قطامش » .
ومجموع الفنون الشعرية التي نـَظـَمَ بها شُعراء العامية أشعارهم اصطلح على تسميتها بالفنون الشعرية غير المعربة ، وأجمع المؤرخون على أنها سبعة ، وهي :
(الشعر ، والموشح ، والدوبيت ، والزجل ، والكان وكان ، والقوما ، والمواليا)، وقد جمعها شاعر بقوله : (إن كنت تسألُ ما الفنون فإنها / سبعٌ كما صارت بها الأقوالُ . / شعر ، وتوشيح ، ودوبيت ، كذا / زجل ، وقوما ، كان ، والموالُ).
وهذه الفنون منها ثلاثة مُعـربة لا يدخلها اللحن ، وهي :(الشعـر ، والموشح ، والدوبيت)، وثلاثة غير مُعـربة وهي :(الزجل ، والكان كان ، والقوما)، والسابع : المواليا : وهو برزخ بين هذه الفنون ، يحتمل الإعراب واللحن ، ولكن النظم فيه بالعامية أليق وأحسن ، وخاصة بعد أن تسلمه " البغاددة " من أهل (واسط) في القرن الثاني للهجرة ، حيث لطفوه ، ونقحوه ، ورققوا ، ودققوا ، وحذفوا الإعراب منه ، واعتمدوا على سهولة اللفظ ، ورشاقة المعنى ، حتى عُرف بهم دون مخترعيه ، ونـُسـب إليهم وليسوا بمبتدعيه ( ).
و(المـوال) : فنٌ قديمٌ أصيل بالبيئة المصرية ، وهو في الأدب الشعبيّ كالرجز في الشعر العربيّ ، قريبُ المأخذ ، سهلُ التناول والتداول ؛ ولهذا نجد المصريين ينظمونه ، ويغنونه على اختلاف مراتبهم ، سواء في ذلك المتعلم ، أم الجاهل منهم . إنك لتجدهم يرتجلونه عفو الخاطر ، ويتطارحون به في حلقة السمَر على البديهة ، وإن لهم في ذلك من الأمثال والحكم ، ومعاني الوجد والصبابة ، روائع ، وأفانين ( ). و(مصر) و(العراق) أكثر مناطق العَالـَم العربيّ صلة بفن الموال ، ويرجع ذلك إلى طبيعة الأدب الشعبيّ فيهما ، وهو فنٌ مختصر استخدم في شتى الأغراض ، وأذيعَ بالغناءِ أكثر مما أُذيع سواه( ).
و(أهل الصعـيـد) أشهر الناس بفن الموال ، ويُقسمونَهُ إلى نوعيّن : 1 - (أحـمــر) : وهو ما يُنظم به في الحماسة ، والحرب ، والحِكم . 2 - (أخضـر) : وهو ما دَخلَ فيهِ التغزل ، والنسيب ، وما إليهما من الأنواع الرقيقة ( ) .
فمما ينظم في الحرب قول الشاعر في موال ٍ" أحمر " :
(صَفْقْ جَوَادِي وَقدْ جَسيت يوم الحربْ / عُودي فَغَنتْ صَوارِم شَرْقَها وَالغَربْ / طَربتْ عَادت تنقطْ في سِماع الحَربْ / روْس الأعادِي وتُرقصْ داخله فِي الضربْ)( ).
ومِن الموال " الأخضر " قول الشاعر :(جَاتْ بِسَلّهْ مِن التِفَاح قَدْ فَاحَتْ / قَمْحية اللّونْ مَعَهَا أرْواحَنُا رْاحتْ / مِنْ حَبِ رمانْ نَهْديها إذا ارتاحت/ يجيب لها قَرْطمِيّه كُلّها لاحتْ)( ).
وللشاعر« حسين مظلوم » قوله : (في الوشِ صَاحِب حميمْ وفي الغِـياب تعْـبانْ/ يابُو بَراقِشْ بِتلْبسْ كُلّ يُومْ ألوانْ / تُوب الخِداعْ انْكشف لمَا المخبِي بانْ / واظهرْت يا نِمْر أنْيابَك وأظفَاركْ / قَالوا الدِهان معَ الوبْر لم يَنفعْ الجربانْ) ( ) .
وقد يدخل في الموال " المَثَـل " كنوع من التضمين ، ومثاله : (يا واخد القِردْ أوعَى يخْدَعك مَاله / تِحْتارْ في طَبْعَه وَتتعذبْ بأفعاله / حَبْل الوداد ان وَصْلّته يقطََع احْبَاله / تِقضِّي عمْرك حَليفْ الفِّكر والأحزان ْ/ ويذهَبْ المالْ ويبقََى القِردْ على حَاله).
وهناك من يقول بنسبة فن الموال لـ(الموالى العـبـيـد) ,عَـبروا به عن سخطهم على السادة الموالى أيضًا .
ومن النقاد مَن ينفي نسبة هذا الفن لـ(موالي البرامكة), أو للرثاء عن طريق الإماء وراء جارية لـ « جعفر البرمكي » في (نكبة البرامكة) حين نهى « هارون الرشيد » عن رثاء البرامكة بالشعر , أو من اسم الجارية « موالى » ( ) .
وتتعدد المكونات الفولكلورية من أدب شعـبيّ مروي تدخل فيه الأنماط المنطوقة والمغناة , والأصوات , كما يضم الحكايات الشعبية بأنواعها وأقسامها( ).
وينبغي أن نعود إلى تراثنا العظيم , وفلسفتنا الشعبية الأصيلة ، نستمد منها كل ما يحقق لنا هويتنا , ويبرز ذاتنا المستقلة , فنحن في أشد الحاجة إلى مَن يقوم بلم شعثها ، وجمع ما تفرق منها ( ).
(1) عــلــــي مـعـــــوض ، و : (خــطـــــاوي) مـواقــد تـتـسـعـــر
في ديوانه (خطاوي) الصادر عن مطبعة أولاد علام بشربين ، عام (2007م) يدين الشاعر« علي معوض »( ) الوهم ، والجمود ، والجحود ، حيث يتنوع الإيقاع في القصائد ، ويتضح النسيج الصوتيّ لها ، كلما توغلنا في قلب الديوان ، الذي يقع في (157 صفحة) من القطع الوسط ، يخفق فيها قلب الشاعر بالحب عن إخلاص ، وتفيض نفسه بالرضا عن حقيقة ، ولسانه يجأر بالدعاء عن عقيدة ، يقف الشاعر في وجه القبح ، حتى يجف جذره ، ويميل جذعه ، ويهوى إلى الأرض ، ويمضي الشاعر في ديوانه يُغـني :(كنت ماشي وجيت أعدي / قلبي عدى وداس عليه / غصب عني مش بيدي / قلت : اسامحه ، طبع فيه / زاد في عنده ، جه يغيظني ، غاظ في نفسه ، وضحى بيّه)( ص 5). هكذا يترك الشاعر النار في مواقدها تتسعر ، فالمُحب يجفو ، ويُسرف في الجفاء ، يُزيف الحقيقة بميوله ، ويُشوه الصورة بفضوله ، وتكون النهاية ضده ، رغم أنه ضحى بمن يحب ، وسدد إليه السهام ، وعاش في الخواطر والأوهام .
وشاعرنا يعبر عن حبه لوطنه الذي يسدد إليه الحاقدون حِرابهم . و(مِصر) موضع إعجابه لا يدرك باعُها ، ولا يترك اقتفاؤُها واتباعُها ، لهذا نراه في قصيدة بعنوان :(مصر مع حبي وإعزازي) يرفع الحجب المسدولة ، ويبهر الألباب ، ويلج منها كل باب ؛ فيهتف : (قمرك منور في السما راح له النسيم ونداه)، ويتدله في حب الوطن ، ويغرق في هذا الحب حتى أذنيه ، ثم ينتقل بنا إلى شخص يتغابى في حياته ، يأخذ حظه من التعاسة ، فهو : (لو حاولت ف يوم تدله للجنوب على طول يشرق)، وبعد الغوص في باطن الشخصيات التي يراها في الحياة ، يقدم أنموذجًا آخر تحت عنوان :(ألف شكر) فيقول : (ألف شكر على السؤال / رغم إني كنت واثقه / إن ردك كان محال / لو في يوم فكرت تسأل / يبقى لازم في الخيال / دا اللي كان دايمًا في ظني / صوره دايمه في خيالي / غصب عني / كانوا دايمًا يحكوها لي / من وانا في صُغر سني / قالوا قاسي / قالوا عاصي / قالوا ما يهمه الا نفسه / عمره ما ف يوم جه يواسي) (ص12 ، 13).
والشاعر ينحُو في شعره منحى سهلا ً، وفي شعره أنفاس وأقباس مِن الزجل ، وله ابتكاراته ولغته الشعرية الخاصة التي تلملم الشظايا العالقة بجمار الأفق .
هــمــوم الـشـاعـــر
وشاعرنا كالطائر الذي يشعر بالغربة في أسره ، ويتجلى ذلك في القصيدة التي يحمل الديوان اسمها (خطاوي)(ص 14) ، وفيها يقول : (جاي بتسأل (خطوتي) ليه سابقه دايمًا خطوتك / وان حظك ليه تعيس والعُوجَه جايه ف قسمتك ؟). وتمضي المعاناة على هذا المنوال ، ويتردد الشجن والهم الوجوديّ والكونيّ ، ويظهر دور الشاعر البارز والمستكن في ذاكرة الشعر العاميّ ، وتتعدد قصائده التي تنتسب إلى ما يُسمى بقصائد الحالة الشعورية ، والكثير من قصائده تنحو منحى قصائد الوجدانيين والأبوللويـيـن - نسبة إلى جماعتي "الوجدان" و"أبوللو" ( ) - في التشكيل والمعجم الشعريين ، وفي الموقف الشعري . والناس في ديوان (خطاوي):(خلق تايهه في السكك مش عارفه تمشي فين ولا إمتى تقف ؟)(ص 20) .
وفي قصيدة بعنوان :(عشانك) يجنحُ إلى الأوزان الصعبة :(عشان بيكي انشغلت / يبقى انتي ما تسأليش / قاصده تقسي عليّه / وحياتي ما تساويش / بدونك صبري مر / وطعمه ما ينتهيش / هوه انا أذنبت يعني ؟ / إن جيت افرح وأعيش ؟). وقد يتجه إلى أوزان الموال (ص 28): (بينهم وبين ربنا / ما في أدب وخشوع / الكلمة منهم أذى / ليها جذور وفروع / الأصل تحت الجزم / حتى الخشا مرفوع / ح اتعب في قلبي لأيه ؟ وانا م الألم موجوع)، والشاعر في نظمه مرهف الحس ، رقيق النفس ، يعلو صوته إذا أحس بمصرع أحلامه ، يقوم بتجسيد الفكرة ، ويقدم لها صورًا متتابعة ، متلاحقة ، متلاحمة ، متدفقة ، وقد تتكرر الفكرة في أكثر من قصيدة تنضح بالحزن ، وتعبر عن شجنه بلغة تحمل إيقاعًا مشحونًا بالأسى ، وتتسلل الأحزان من القصائد ، تنطلق صوب قلوب المتلقين ، تهزهم هزًا ، وتؤزهم أزًا ، وتحيط بهم ، وتحملهم على مشاركة الشاعر وجدانيًا ، فيتجاوب المُتلقي مع القصائد التي تُوحي بالكثير من الدلالات النفسيّة والاجتماعيّة وتمثل المعاناة الإنسانيّة بطريقة فنيّة
والماضي عند شاعرنا يُلقي بظلاله على الحاضر المعاش ، يقطف منه زهو الضحى ، ومرارة الحرمان في آن ، ويبدو الفن على حد تعبير صاحب نوبل « نجيب محفوظ »(1911م - 2006م):(عملية طويلة متأنية ، تبدأ بقلق عفويّ من مصادر شتى ، وتشمل المتاح لنا من الحياة ، والثقافة ، وتتشكل شيئـًا فشيئـًا ولادة تصطرع فيها عوامل فناء وبناء ، حتى تستوي مخلوقـًا ما ، يمتاز بصورة ودلالة ما ،غير أنه لا يعطي عطاءه مباشرة بقدر ما يثير في نفس المتلقي نشاطـًا ، من شأنه أن يخلق العـطــاء ويحدده).
من هنا يختار شاعرنا اللحظات التي تكثف ، وتبلور ، وتضئ ؛ بهدف تكوين الصور البراقة الثرية ، يرفده في ذلك كله قلب مُحب ، واتساق في التفكير . ويصف شاعرنا من حاد عن طريق الحق بأنه فاق الشيطان : (الشيطان نفسه لعمايلك يختشي يصبح بليد)، وذلك في قصيدة بعنوان : (شيطان)(ص 29). وفي قصيدة وجهة نظر يدعو للكف عن التدخين ، ويرد عليه المُدخن بأنه لن يترك التدخين حتى لو أدى ذلك إلى هلاكه (ص 31). وعن الجزاء يوم القيامة في قصيدة: (جزاء)(ص32) يقول :(كل فعلك حتلاقيه / زي بيت مقفول بباب) . وفي قصيدة بعنوان : (كلمة لوجه الله)(ص 33) يتوجه بالنصيحة إلى المتلقين ، وفي قصيدة بعنوان (العـيـبـه)(ص36) يهتف :(أعتب عليكو يا خلق / والا اعتب على نفسي / دانا اللي فضلتكم عن بكره وف أمسي)، وشاعرنا حريص على الأخذ بأسباب الثقافة ، والغوص في نهر الإبداع ، وأشعاره فيها ما ينم عن الإفادة من الثقافة أدبيًا وفكريًا وروحيًا ، لهذا نراه في قلوب مريديه دائمًا . وهو يروض لغته الشعرية لتصبح طبقة لينة ، ويحاول التوحد مع الفن ، يعانق لحظة الإبداع ، يحاول أن يصنع من الوجد المعجزات ، يسرع إلى شرفات الإشراق الفني ، يستنشق هواء التجديد الذهنيّ ، يجاهد في ميدان الكلمة ، يحول الفن إلى " ميكروسكوب " ، يَعرض من خلاله مشاكل الناس وآلامهم ، يبذل الجهد ليحافظ على جماليات الفن الشعريّ وسحره ، يجمع بين القديم والجديد ، وليس معنى تحديد مدخل معين للولوج إلى عالم الأديب « علي معوض » والعيش في رحاب فنه أننا نصادر المداخل الأخرى ، ذلك لأن كل خطاب يطرح مدخله الخاص ، كما أن الخطاب الواحد ربما يطرح لنا العديد من المداخل ،التي تفتح المجال أمام الدارسين للتحرك في واحد منها ، أملا ً في الوصول إلى مُستهدفهم .
وفي كثير من قصائد الديوان يرفض الشاعر العمل على سيادة القيم الاستهلاكية التي حاول الآخرون تكريسها ، وذلك مؤشر قوي ، إلى جانب أنه دليل أكيد وواضح على أن شاعرنا صادق مع نفسه وفنه ، يعزف على وتر شدّه بينه وبين وطنه .
طـــريــــق
في قصيدة بعنوان :(طريق) بقول شاعرنا في مطلعها :(من فين تلقى المحبه / والصدق والحنين / وصديق مُخلص يعاهدك / ويعيش وياك سنين ؟) . وفي قصيدة بعنوان (يا معداوي) يقول الشاعر : (ليا مكان وياك يا قريـبـي / والا استـنـى الدور الجـاي ؟)، ويُرسل رسالة قصيرة بهاتفه المحمول تحت عنوان : (شورت مـيـسـيـج بالموبايـل)(ص61)، وفي قصيدة بعنوان :(اللي راح) يسأل شاعرنا : (اللي راح فين ح يرجع ؟)، (ص 62) . وفي قصيدة بعنوان : (أحباب)(ص67) يهتف :(الزمن نساك صحابك / لما توب العز نابك / الغرور والكبر صابك / مستحيل ح ندق بابك) . وفي قصيدة : (ضمير) يقول :(تسوى إيه من غير ضمير / يا للي جدرك كله سُوس ؟ / للي ليه أخلاق تشوه / تيجي ع الأحلام تدُوس)(ص 69) .
ويحاول شاعرنا تعزيز القصائد ، ولهذا نراه يحاول صياغتها على شكل قصة ، كما يستخدم أسلوب المفارقة ، أو التضاد ، الذي سماه النقاد القدماء (الطباق) ، ويخرج أحيانـًا إلى فضاء التشخيص ، يُعبر به عن عمره الفائت ، وهموم عصره ، ولكن مهما كان الشعر وليد عصره ، فهو يضم سمات ثابتة من سمات الإنسانية ، وبقدر ما صور :« هوميروس »( ) و« أسخيلوس »( ) ، و« سوفوكليس »( ) ، و« فرجيل »( ) ، ظروف مجتمعهم القائم على العبوديّة ، وازدراء العمل البسيط ، بقدر ما اكتشفوا في ذلك المجتمع عَظـَمـة الإنسان ، وسجّلوا في شكل فنيّ صراعه وآلامه ، وألمحوا إلى إمكاناته غير المحدودة ، لذلك ظلت أشعارهم حية ، بل ومعاصرة ، تؤثر فينا حتى اليوم ، وتبقى تؤثر في الإنسانية على الدوام ، ترتق جرحًا ،وتحنو على وردة ، وهذا ما نفتقده لدى شاعرنا ، ونحن نظلمه إذا حاولنا المقارنة بينه وبين هؤلاء العمالقة الكبار في تاريخ الشعر .
وشاعرنا « علي معوض » يُوظف الأمور الإنسانية لاجتلاء جمالياتها، ويستخدم أحيانـًا أسلوب تراسل الحواس ؛ بمعنى تبادلها لإضفاء حاسة على حاسة أخرى .
وهو في قصائده يجتر مرارة الحياة ، يدفعنا إلى المغادرة الدائمة للبحث عن اليقين ، والجديد ، والصحيح ، وهو أحيانـًا يغسل همومنا ، وقد يجنح إلى إسالة الدموع ، فتنفطر القلوب وتتطهر ، وتصفو البصيرة وتتعطر .
وبعض قصائد الديوان فيها خللٌ في الأوزان ، وقصائده التي التزم فيها بالأوزان الصحيحة هي نهر متجدد ، تصدق فيه مقولة ذلك الفيلسوف اليونانيّ :(إنك لا تسبح في نفس النهر مرتين أبدًا مادام النهر جاريًا ، أو مادامت المياه تجري في النهر ، فإنك تنزل كل مرة في نهر يتجدد ، وتسبح في مياه جديدة).
وهكذا ..... فالأشياء تتغير ، ومع هذا التغير كان اللقاء مع الفنان « علي معوض » ، وديوانه : (خـطـــاوي) .
(2) فتحي البريشي ، وقصيدتان ، وديوانه : (غـُنا الشوارع).
قصيدتا : (الخيوط ، وترانيم غير مُـلحنة لموال النهار الميت)
أشواك النوى
الشاعر « فتحي البريشي » ( ) مبدع ينتظر الورد الذي ينمو ويطلع من تحت تراب الأرض لتزهر الدنيا ، وهو شاعر يحمل في قلبه عصفورًا يغنـّي ، ويحمل في عينيه قمرًا ، وفي أشعاره تسكن تباشير المطر ، وهو يعشق الأرض التي تشكـَّلَ في رحمها ، ومن هنا فحبه لها كالقضاء والقدر ، وجراحه لا تشابه شكل الجراح ؛ لأنه لم يستسلم للهزيمة ، وعصف الريح الصرصر العاتية ، ولم يسقط تحت سنابك خيل النار ، وفي أشعاره نشعر أنه أورى الوجد في نفسه ، لا يرتج عليه القول فقصائده هي الوجه الوضاح في شعر العامية المصرية .
يقول شاعرنا في قصيدة بعنوان (الخيوط):
(باكتبك في الدفاتر .. غنا / وانزفك لحن صعب فْ يناير / انتظار الشباب للبنات في الجناين / أو على بوابات المدارس بحزن / افهميني بقى / مره واحده افهميني بقى / القميص الوحيد اللي عندي / لا حمل انتظارك ، ولا بتاع شقا / والقميص الجديد اللى ناوي اشتريه صعب فيه اللقا / فافهميني بقى / مره واحده افهميني بقى)( ). وشاعرنا يستنطق الديار ، ولا يحب الاستماع إلى حوار الموتى ، يحرق المسافات شوقـًا إلى الحقيقة ، وهو شوق كشوق الجنين إذا اشرأب مِن الظلام إلى الولادة .
ومن هنا يكون السؤالُ صادقـًا ، ينام بين المحاجر التي تحيط بالعيون ، ويحلق كالنـَّسـر على بوابة الوطن :
(طفل لابس هدومي فليه تخسريه ؟ كان يجب تعرفيني قوى ، وتشوفيني فْ ساعات العصاري / أصل انا حاجه في المدرسه ، وباختلف لما أروح الحواري / كل تجعيده فوق جبهتي ليه يعديها رمز انكساري ؟ / طب ما انا كتير قوي بابتسم للبنات لكن انتي اختياري).
لقد نازع الحلم شذاه ، واستوطن الحزن القلب ، ووصل السيف إلى الحلق والعظم ، حيث يصعب على العاشقين الكلام ؛ لكنها اختياره ، يطبعها على بلور عينيه ، تطلع في دنياه كالنجوم التي تضئ السماء ، فقد صادف قلباً إليها مقلوبًا ، وهوى نحوها محبوبًا ؛ فأقبل عليها إقبال السيل في اندفاعه ؛ لهذا نراه يهتف :(كنت أول مسافر في بحرك يضيع جواز السفر / والسكك مش غريبه / واللي زيي مش ممكن يضيع / جوه سكه فْ آخرها حبيبه / بس لما الطريق الطويل الطويل يبتدي بألف آه تبقى فعلا ًمريبه / والطريق مش طريق) . ويدلنا شاعرنا على فطرة سمحة ، وطبيعة سخية ، يصدر عنها شعره كتميمة عشق ، وخميلة صدق .
اتــســـاع الــــرؤى
وما أظن أنني أعدو الصواب إذا قلت بأن القصيدة لدى شاعرنا آفاق من جمر ، فنيران قلبه تثور توقدًا :(وان سفينتك مشت بيّ وسط الجبال / لازم أسأل سؤالي البرئ / باعشق الموج في بحرك فليه تعشقيني غريق ؟). وشاعرنا لا يحرث في البحر ، ولا يطمع في عبور الجسر قبل أن يصل إليه ، ولا يقف أمام مُعُمّّياَت ؛ فالكلمة نهر من الأحلام ، وفيض من الظلال ، وطير طليق ، ومُهر حرون : (كل لعـبه تشوفيها في إيديَّا بتستكتريها / خيوطي فْ إيديكي / وعمري ما فكرت اشيل القناع / وميت ألف مره براهن عليكي بعمري اللي ضاع / واخسرك في اللقا ، واخسرك في الوداع). إنه يعرف طريقه كما يَعرف النـَّحـل الزّهر ، وطـَعـم الرحيق ، وحين يتمادى النأي والغياب ، يسلك شاعرنا طريق الحزن ، ويرتاد الأماكن الموحية بالأمل ، لا يشكو الفشل ، ولا يكل من طول العمل إذا ازدحمت في الكلام عليه المطالب ، وعلقت بحواشي فكره المآرب ، فنراه يلقى المنى طيفـًا في ظلال الحروف ، فقد أدمن طعم الترحال و(الحكايه ببساطه / زي ما رضيت أكون لعـبه وبتلعبيها / قلت : برضه العـبك / بس كل اللي فيها / كل ما تشوفي لعبه فْ ايديَّا بتستكتريها). الشاعر هنا يستبصر ما يجري ، ولا ينتظر حتى يتبدد عبير أيكته ، ويخفت صوت الحنين الذي يسري في الأعماق ، فكانت هذه الكلمات التي آثر أن يختم بها قصيدته ليعبر بها عن اختناقات المدى ، فطبيعة التجربة الجمالية هنا تبدأ من (اللغة / اللهجة)، وإليها تعُود ، إذ أن (وسيلة المحاكاة) بمفهوم « أرسطو » أو (التعـبـيـر الفـنـيّ) بـمـفـهـوم « كـروتـشـــه » ، أو (الشكل الجماليّ) بمفهوم « كاسيرر » و« سوزان لانجر » (هو ذاته لغة أي مبنى ومكون من حروف ، وكلمات ، وجمل وعبارات)( ) .
ومن الطبيعي والمفهوم - حسب هذه المَـقـُولة - أن للذائقة الفردية الاختلافية أحكامها الجمالية التي يستحيل حصرها ، أو اختزالها .
يقول « أديــــســــون » :
(إن التذوق فطري ؛ ولذلك فهو قابل للتهذيب ، والإصلاح ، والتنظيم ، والتخطيط ، والتثقيف من خلال الإطلاع على آراء النقاد سواء أكان ذلك في الماضي أم في الحاضر).
ويقول الدكتور « شـاكـر عـبـد الـحـمــيـــد » :
(إن التذوق هو إدراك للمحاسن ، واللطائف ، والأضداد ، والصراعات من جزئيات العمل الفني ، فهناك مراحل للإدراك والتذوق ، فالإدراك الكلي هو الأساس ، ثم الجزئيات الخاصة بالعمل التي تجتذب المتلقى ، ويعود إليها كل حين)( ).
جــمـالــيــــات
وإذا كانت القراءة الجمالية (النقدية) ملتزمة أو(مقيدة) فما ذلك إلا لأنها تخضع لسلطة المعرفة وأخلاقياتها ، لا لأية سلطة أخرى ، ولهذا يتحول التزامها إلى فعل تحرر وتحرير ، لأن المعرفة الحديثة - بحسب « معجب الزهراني »- (تؤمن) بنسبية : (المعنى ، والجمال ، والحقيقة)، وبالتالي تعزز وتعضد المغامرة الاستكشافية للنصوص الشعرية من خلال التذوق للبعد الجمالي( ) الذي يشمل التقييم ، والتفضيل ، والميول ، ويشمل التقييم : قوة التمكن عند شاعرنا وبراعته في الوصول إلى أسلوبه الخاص ، وتحديد ما يميل إليه ، وما يفضله ، وما يرفضه كما قدمنا ، وشاعرنا يحتاج إلى دراسة منصفة توفيه حقه أو بعض حقه ، ولنا أن نضيف فعالية القراءة الواعية لشعر« فتحي البريشي » للكشف عن بعد آخر من أبعاد التذوق ، وهو : (البُعد العقليّ المعرفيّ)، ويشمل : (الفهم ، والاستدلال ، والمقارنة ، والربط بين المتشابهات ، والإدراك ، والأعماق) ، فنحن أمام شاعر ثمل من رحيق الشعر وعبيره ، يحدث عما في وجدانه وضميره ، ففي قصيدة بعنوان : (ترانيم غير ملحنة لموال النهار الميت)، يمتطي أريج صبوته ، فالعنوان يشي بالتوجس ، والقصيدة تحمل معاناة شاعر ، وشكاة عاشق : (ماتعمليش الكون غناويكي / ولا داعي تبقي الليل في موال الحزانى / خليكي غامضه بقدر ما يمكن / وخبي جتتك في هدوم / غباء الكون / حواليكي / ولا تسجدي للشفايف لمّا تضحك لك / أو للعـيون لو بكت للدمع من أجلك / ما تبينيش سرك على العفاريت / كلمة (ياريت) زلزال). فشاعرنا يبدى سريرته لقارئه شفافة ناصعة ، دون حجاب بعد أن فكـّر وقدر ، ورتب ووازن ودبر ، وقرب وباعد ، وتجنب الإفراط والتفريط ، ولا يكون ذلك إلا صدى لالتزام أدبيّ يعتنقه " صاحب النص " الذي يهتم بالمعنى الدقيق .
صـــــــراع
وتتواصل الترانيم :(شدي الحزام يا أرض بور / وما ترقصيش (سامبا) ولا (رومبا)، ولا ترقصي (بلدي) / ليفكروكي بتلوي مصارينك / جوع الجواعه بشرف أهون كتير م الذل في شبع الشباعى).
والجوع لغة ًضدُّ الشبع ، وفي الفصحى : هو : جائعٌ وجوعان ، وهي : جائعة وجوْعى ، من جياع وجُوَّع كركـَّع - والجواعى والشباعى في العامية ، والشبع في الفصحى ضد الجوع . تقول : هو شبعان . وسُمع في شعر الفصحى شابع ، ولا يجوز في غيره ، وهي شبعى وشبعانة ، وفي المثل :(تجُوع الحرة ولا تأكل بثدييها)( ) حتى لا تكون سلعة مبذولة في سوق الرقيق والإثم .
ويزداد التوتر في النص ، ومن المعنى تضيء رحابة الأشياء ، ويبقى موْقد الأعماق مشتعلا ً:(لو تسألي عنـّي / ماتدقـقـيـش في تفاصيلي / قلبي اللى راسي فْ وسط رئتينك كما الصخره / دمي اللي يابس في مفترقات شرايينك / أنا نسخه منك تمام / لو كنتي راجل فانا راجل ، وإن كنت مسترجله / عفوًا / فانا راجل / فمتزرعيش الشمس في كفوفي ، وما تسأليش عني).
وتتعدد المدارات المريرة حول قطب الألم ، ويتحول الشعر إلى قنديل يسيل بالأضواء على المكان ، فهو وردة الغياب ، والنور ينسلخ من طبقات الظلام وينسل ؛ ليرسل جذور شعـرهِ بعـيدة عميقة في تربة أرضه الشعرية :(الميه بردت برود الحرف والنقطه على اسمك (بدايات تحول اتجاه الموت) /الموت أنا ، والكفن يتلف على جسمك)، هكذا تهون الرؤى ، وتنحرف ريحُها عن سياق المحال خوفًا من الفاجعة ، ويتحسس الشاعر عمره ووقته قد قرر السير نحو هواه ، وليس معه في مسير العناء رفيق ، ويتحول شاعرنا إلى عصب عار مكشوف لكافة المؤثرات : (رسمك غريب النهارده وبكره وامبارح / عمري مابستك بنية بوس / ولا عمري شفتك بنية شوف / وقلبي لما نبض مره فْ لُقا بينّا / ما كانش عاشقك دي كانت ارتعاشة خوف) ويبقى الليل في حداد ، والفجر يرفض أن يفتح أجفانه : (يا ليل إذا الشمس بانت ليه بتتدارى ؟) ( ).
ويسحق الواقع الإنسان في كل لحظة ، ويبقى العالم هو العالم مدمرًا ، وقاسيًا ، ومضنيًا ، ومع هذا التناسخ لابد أن يولد رد فعل أو مقاومة ، بهدف خلق انسجام من نوع جديد ، ومن هنا تكون البطولة ، فتاريخ الإنسان هو تاريخ الصراع ، والصراع يعني مواقف إنسانية ، ويعني طموحًا لخلق شروط أفضل للحياة .
ديـــوان (غــُـــنـــــا الــشـــــوارع).
يقول الشاعر الفرنسي « شارل بودلير »( ) :(إن الشعـر يمس الموسيقى عن طريق عروض تمتد جذوره عميقة في النفس البشرية ، بقوة أشد من تلك التي تشير إليها أي نظرية كلاسيكية)، وفي المدى اللاهب يسبح الشاعر الصادق في ضياء الرؤى ، حيث تورق كل الفصول . فالصدق مع النفس وسيلته لاختيار وجوده حتى يخترق عالم الأسرار ، الذي لا يكون بمقدور الإنسان العادي التغلغل فيه وسبر أغواره( ) ، والشاعر« فتحي البريشي » يُذكرنا بأعماله الإبداعية بنصوص « بيرم التونسي » الذي كتب في : (الثقافة ، والحرية ، والتعليم ، والسياسة ، وهموم المجتمع). ففي ديوان « البريشي »(غـُـنا الشوارع)( )الصادر عن دار الإسلام للطباعة والنشر بالمنصورة ، ضمن سلسلة أدب الجماهير، عام (2008م)، نعيش مع شاعر مُخلص ، وفيّ لرأيه ، ولموقفه باستمرار، ولم يحدُث أن جرفه في يوم ٍ من الأيام التيار مثلما جرف غيره . ولم يحدث أن تخلى شاعرنا عن آرائه مثلما تخلى الكثيرون من الشعراء . إنه شاعر أثبتت الأيام أن إخلاصه في فنه يعلو على كل الاعتبارات ، وقد تفرغ لتجويد فنه ، الذي انحاز فيه لـ(قضية واحدة)، هي : (حب مِصر ، ونهضتها)، فنشعر من خلال كلماته بغيرته على " مستقبل مِصر " ، ولهذا فإنه لم يُهادن أو يُنافق ، ونراه في قصيدة بعنوان : (كابينة) يقول :
(يا عين يا ليل / يا بحر لو ريقك نشف خليك أصيل / بلاش تمص أوردة الشطوط المرغمه / على الرحيل !! / يا ليل يا عين / ولما تاهت السفينه ولبست الموج اللعين / لبسنا توب الحسْره لحظة اختفائنا / لكننا .. الألف راكب / جوه آلاف المراكب / سندبادات عصرنا .. !! / حاولنا نقتل الليالي والعيون المُحزنه / في صدر موالنا الجريح / رفضنا نرضع من بزاز الغربه لبن الامتثال / ورغم شدة العطش / لم نمتثل لأي ريح / رفعنا صوتنا معلنين بأننا : / لا عمرنا ح نبقى كعـبه للقلق / ولا احنا ملجأ للأنين / قدرنا نرسم ع الشفايف غنوه دوّت ع الملأ / لحظة ما قابلتنا السفينه الداخله ع الشط الحزين/ ادخلوها سالمين / ادخلوها آمنين / مصر بلد الـ(......)).(ص 13 ، 14).
والشاعر هنا يستخدم (يا ليل يا عين)، بمعنى : استيقظي يا عين( ) ، كما يستلهم (ألف ليلة وليلة) بشعور دافق دافئ ، وسريرة متيقظة بعيدًا عن التعبير الشائه ، ومنزع شاعرنا واضح لا شبهة فيه ، ويأخذ ُ من (ألف ليلة وليلة) الـ« سندباد » ( ) ، ويجمعها للتعبير عن غرقى العبّارة المصرية ؛ ليعلمُنا أن الأمم التي لا تعرف الشعور الحق مكتوبًا مصورًا ، لا تعرفه محسوسًا عاملا ً، وهكذا تتغلب في أشعار « البريشي » السجايا المُنزهة على المطامع الضيقة ؛ فيبهرنا هذا الأوج المتسامي صعودًا إلى السماء من خلال أبيات قريبة من النواح ، والندب ، وشهقة البكاء .
والقصيدة تدلنا على أن الشاعر صاحب موقف في زمن قلّ فيه أصحاب المواقف ، ومن نافلة القول أن الشاعر في الأساس موقف ، والموقف هو الذي يصنع الشاعر، مثلما يصنع الرجال .
لم يشأ شاعرنا أن يطنطن بعبارات خلابة ، واهتم بالقيمة التي تعد مفتاحًا صريحًا صالحًا لتأملاته التي اختمرت في ذهنه أمدًا طويلا ً، ثم عادت لتسيل على قلمه بعد أن اتخذت صبغة وطنية روحية ، تلبي احتياجات المشاعر الإنسانية . والأبيات فيها عزة تتطاول بها أعناقنا ، وفيها غضب تغلي به صدورنا ، وفيها نغمٌ تترنم به كل سليقة من سلائقنا ، وفيها تاريخٌ يسجل أحوالنا ، ومآسينا ، وكوارثنا ، ويستوعب خلاصة التجارب الحياتية ، فضلا ًعن الحـِكـَم التي يجد كل قارئ حُر حصته منها ، ولكل سيدة فاضلة حقها فيها .
إيـحــــاء فـــنـــيّ
والذي يجمل بنا أن نفهمه أن قيود الضرورة هي مسبار ما في النفوس من جوهر الحرية ، فالأديب يختار في عمله الأدبي الكلمات ذات الإيحاء الفنيّ ، ولكن ينبغي ألا توقعنا هذه العبارة في الفكرة الخاطئة التي شاعت قديمًا ، واتخذت في كثير من الحالات أساسًا للحُكم على الإنتاج بأنه أدبيّ أو غير أدبيّ ، نعني بذلك الفكرة القائلة : أن هناك (لغة / لهجة) أدبية أو - على وجه التحديد - ألفاظـًا (أدبية) ، وأخرى (غير أدبية)، فكما أن موضوعات الحياة كلها تصلح للتناول الأدبي ، فكذلك كل ألفاظ (اللغة / اللهجة) صالحة لأن تستخدم في عمل أدبي . كل ما في الأمر أن الأديب يختار للكلمة المكان الذي تكون فيه أصلح كلمة تُستخدم ( ).
وفي قصيدة بعنوان :(مواويل ع الطفل والوجع)( ) يقول الشاعر : (أحلام كتيره قوي/ خمسين سنه أحلام / ألفين يا عام العجز/ أحلامنا فيك أكوام / غطت شيلان العرب .. عرّت مقاعدهم / علت العروش والكروش/ واتخن ما فيهم نام)، هكذا يتحدث الشاعر بقسوة لتعرية المفسدين ، فالشعر لم يعد هدية تحمل إلى الملوك والأمراء ؛ لإرضائهم ، ومنادمتهم ، وتفخيم قدرهم ، وتكبير صفاتهم ، وتسليتهم ، ومن هنا نرى شاعرنا ، يُحذر من مغبة التلهي والبُعد عن الصدق والقصد ، وشاعرنا لم يسع في يوم من الأيام إلى أن يتبوأ موقعًا في المواقع الثقافية كما فعل الكثيرون ، ولم يُمالئ في مواقفه ، وإنما كان الصدق ديدنه ، وقول الحق مسكنه ، فنجده في إبداعه يحرص على أن تكون أشعاره نابعة من رؤيته ، ومن أعماق نفسه وفطرته .
وهو شاعر يدرك أن وظيفة الثقافة في المجتمع هي قيادة الفكر؛ ولذلك عاش مخلصًا لمجتمعهِ ، وساهم في معركة التنوير ، والحرية بأعماله الإبداعية ، ولم يحمل أفكارًا سياسية لغيره ، كما أنه لم يُروج لمذاهب الغير؛ ليقرب المسافة بين الإبداع والواقع .
وفي نفس القصيدة يقول :(ملعُون أبوك يا تراب / ملعون أبوكي يا أرض / في زمان ضياع الشرف / عاد زي نزلة برد)( ) ، فتتحول الكلمات لديه إلى أسواط تُلهب ظهور الطغاة ، ويتساءل في نفس القصيدة عن (أطفال الحجارة) بفلسطين المحتلة ، إذ وَجد الطريق أمامهم مزدحمًا بالضباب ، محتاجًا إلى المقاومة ، فاستلهم الفطرة الباقية في الأطفال بعيدًا عن الأهواء العارضة ، والمآرب الخاوية ، ليقـُول :(يا طفل يا ابن الخليل والقدس / إيه وضعك ؟/ يا صدر هذا التراب / كل الوطن وضعك / سبقت سنك كتير / وسهرت تحرسُنا / واحنا اللي ما همنا .. يا طفل / صوت وجعك)(ص 73). وفي قصيدة (غُـنا الشوارع)- التي يَحمل الديوان اسمها - يقول شاعرنا (ص 45): (وانا ماشي ف قلب شوارع مصر .. كتير غنيت / وساعات بيجيني الغـُنا في البيت / وإن تاهت مني الغـنـوه في بلدي / ما باغـنـيـش / لكن لو تاهت مني في شارع / جوا بلاد الناس ما امشيش !! / وكأن حياة الغربه حرام من غير مواويل / ولابد يكون موالها حزين!!)، وتكتسب أشعار « فتحي البريشي » دلالات :(سياسية ، واجتماعية ، وتاريخية)، تنطق بها طرائق التعبير الفكري الإبداعي الفني ، وكثيرًا ما يقاوم الظلم والجور، ومن الناحية المضمونية نجد أن البعد الاجتماعي أشمل من الاختصار والاقتصار على الهجاء الاجتماعي للنماذج البشرية التي يختارها ، ويُوظف شعره في هجائها ، بطريقة نقدية لاذعة ( ).
إن معيار الفن وحده هنا هو الرؤية لا الأداة المستخدمة في هذه الرؤية ، كما أن القانون هو " التشكيل الشعري" لا وسائل إنجاز هذا التشكيل .
ويتضح لنا من كل ما تقدم ما يتميز به شاعرنا من مواصلة الكشوف المتجددة ، وإيجاد الحلول المتعددة ؛ ليجعل للشعـر فعالية معروفة ، لا عادة جاهزة مألوفة .
بصمة واضحة
وانظر إلي شاعرنا حين يختم قصيدته (طبع الغنا) بقوله :
(آخر كلامي / وأرجو العـفـو يا شُعـرا / ما تفكرُوش إني جاي أأمُركُوا ب المعروف / وتركت نفسي فريسه في قبضة المُنكر / والشِعـر إن يخدع / والكلمه إن تخشع / والحرف إن يركع / أنا قلت آهتي وانا عارف حلال دَبحي / ولا خفت م الموت ، لأن الموت دوا جرحي / واحلف على كلمتي / واحلف يمين الله / إني في جراح الجميع / ما عرفت مين « فتحي » ؟).
والأبيات تدلنا على شاعر متميز صاحب بصمة واضحة في شعر العامية ، وكل أعماله تدل على أنه شاعر موهُوب ، مُـثـقـف ، وكل عمل صدر له أثار الاهتمام من جانب النقاد والقراء ؛ نظرًا لأنه يعي ما يحدث في بلاده ، ويؤمن بأن الخلاص من كل مشاكلنا يكمن في تحويل الفكر إلى عمل .
ونحن نستشعر الحب العميق الذي يكنه شاعرنا لمصر ؛ فالأبيات المذكورة آنفـًا تطفو على كلماتها (سنابل بوحه) ، حيث نرى انكسار الحلم ، كما نرى الأجواء المملوءة بصراخ التحذير ، نشاهد عيون الوقت المُشرعة ، ونحس بآلام شاعر تتقاذف الحسرات نبضات قلبه ؛ ولهذا أطلق في أُفـُـقـِـنا قنابله ، التي راحت تدوي من أقطار الفضاءات الشعرية ، إلى آفاق الإبداع الأرحب ، والكلمات في الأبيات السابقة تتكثف حتى تتقطر فينا كرومًا ؛ لأن المُبدع « فتحي البريشي » لديه القدرة على إخراج أقوى الألحان ، وأحدثها من قيثارة شعره . وفي قصيدة بعنوان : (مكاتيب من هناك) يُقسم شاعرنا :
(وكتاب الله .. لو شلت هُموم ( ) الدنيا ف وطني / ما يبقى عذاب)(ص 27)، و(أيمان الله المصري هناك مكروه .. مكروه / وان كان المصري ملاك طيب / أو حتى إله .. ما يحبوه)(ص 28).
ولا يتوقف الأمر عند القسم ؛ فنراه في قصيدة (النيران الصديقة) يقول : (وآه يا بلادي / يا مقهوره من دجله حتى المحيط / ودبحاكي إيد القريب والبعيد / وآه يا بلادي يا متسمره فيك كل المخالب / وكل اللي عطشان / وكل اللي شارب / وقف تحت منك يمص في وريد)(ص78) ، والشاعر يستخدم هنا الطباق في التقابل بين (القريب والبعيد)، و(العطشان، والشارب)، كما يقوم بحذف الفضول ؛ ليعمل على اجتماع الكثير في اللفظ القليل ، مع سلاسة تخلو من التخدير، والصورة كما نرى ترتبط بموقف حياتي ، وتدل على خبرة الشاعر، ونظرته الدقيقة إلى دقائق الأمور، والصورة معبرة ناقلة للمشاعر الصادقة نقلا ًمثيرًا ، إذ حملت لنا مشهدًا حيًا ، ولخصت لنا خبرة ًوتجربة ًإنسانية (يا متسمره فيك كل المخالب)، وهي وإن كانت حسية - لأن الصورة دائمًا لا مفر من أن تستخدم العناصر الحسية - مازالت تختلف في معنى الحسية عن الصورة القديمة ( ) . وفي نفس القصيدة يقول (ص 79):(وكل اللي بايع ترابك يا غاليه / بدون حتى ذرة شرف أو أمانه / وفكر يهنيك / ما عندوش نظر / أو حيا أو مشاعر / شيليه من سنينك / خساره الضيا والهوا ف بياعينك). حيث يرى الشاعر أن بواعث الحياة القوية هي خلاصة المرامي .
والنهضة في نظر الشاعر « فتحي البريشي » هي إرادة الحياة ، وإرادة الحياة ليست هي إرادة البطالة ، والفراغ ، والعقم والشطط ، والمَجاَنة ، وبيع تراب الوطن ، والتشويه ، والتزيـيـف ، بل بجلائل الأعمال ، وهذا هو لـُب موقف شاعرنا المحمل بالفضائل والصدق ، وبعد كل هذا العناء ينتهي شاعرنا إلى خلاصة مُزعجة متأججة لا تقبل الريب ، ولا ترضى بالعيب (ص 79) ، فيقول :(وآه يا بلادي / إذا كنا فعلا ًولادك حقيقي / إذا كنا فعلا ًرجالك حقيقي / فما تفرحيش / كلنا مضيعينك). والموسيقى لدى شاعرنا تخضع للحساب ، والتوازن في الصياغة ، والوضوح ، والوضاءة في (اللغة / اللهجة) ، والقراءة في (غُنا الشوارع) بحاجة إلى يقظة ، ولا يقظة بغير استثارة، ومعاندة ، ومكابدة ، وهذا ما فعلناه مع كلمات شاعـرنا .